كتب كمال عبد اللطيف في صحيفة العربي الجديد.
أتاحت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المغرب، الأسبوع الماضي، الوقوف على الأدوار الجديدة التي أصبحت تمارسها أدوات التواصل الاجتماعي ووسائطه في حياتنا وداخل مجتمعاتنا. وإذا كنّا قد اعتدنا، منذ سنوات، أن نقيم فواصل بين ما يجري في الواقع وما يجري تداوله في الوسائط المرتبطة بتقنيات العالم الرقمي، فإننا نتصوّر، في ضوء التطور في عوالم الفضاء الأزرق، أن أنماط الحضور التي تُواصل بسطها في واقعنا تدعونا إلى مزيد من التفكير في صور علاقتها بالواقع، والتفكير، أيضاً، في مأسستها، من أجل تحويلها إلى واحدةٍ من أدوات الارتباط المتفاعل والمؤثر في مجريات الواقع، حيث تترك آثار تفاعلها المركّب والمتعدّد مع الأحداث الجارية كثيراً من النتائج، التي يفوق مفعولها مختلف الآثار التي يمارسها الفاعلون الذين نُدرجهم في خانة الإعلام الكلاسيكي والواقع الفعلي، المقابل في تصوّرنا اليوم للواقع الافتراضي.
في الإعلام الواقعي الرسمي والمعارض، في المغرب وفرنسا، أو في إعلام بلدانٍ كثيرة تابعت الزيارة، نتابع نتائج الحدث من خلال البيانات المُوَقَّعة والمُعلنة بين طرفيها، كما نواجه بعض خطابات التحفظ أو التواطؤ مع المحتويات التي تضمنتها، حيث وُجِّهَت، بشكل محتشم، انتقادات إلى الاستعمار الفرنسي للمغرب، وأشار بعضها الآخر إلى جوانب من تبعية المغرب لفرنسا. كما نواجه مواقف جرى فيها الاحتفاء بموقف فرنسا من مغربية الصحراء ودعمها مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، باعتباره الحلّ المناسب لمختلف الآثار المترتبة عن تركة الاستعمار الإسباني لشمال المغرب وجنوبه. إلا أن هذه المواقف المعبّر عنها في الإعلام الرسمي لا تضاهي التعبيرات النقدية المتواصلة للزيارة في شبكات فضاءات التواصل الاجتماعي. وتسمح لنا معاينتنا منتوج هذه الفضاءات المتنوّع والمركّب أن نفكر في حدود الواقعية في المجالين، وقد تدفعُنا إلى تجاوز التقسيم المفترض بين عالم الواقع وعالم وسائط التواصل الاجتماعي، أن نتحدّث عن الواقع الذي أصبح يستوعب اليوم وجهين متكاملين ومتباعدين، حيث يتمم الثاني ما سكت عنه الأول، ويرسم الأول الحدود التي لا يتردّد الثاني في تخطّيها، كاشفاً محدودية ما يفكّر فيه الأول. ولهذا الأمر نتائج ومخرجاتٌ تختلف عما ألفناه قبل بروز عالم الفضاءات الافتراضية بمحاذاة العالم الواقعي وفي قلبه. لم يعد ممكناً التفكير في قضايا السياسة والمجتمع والاقتصاد، وفي العلاقات بين الدول اليوم، انطلاقاً من زاوية واحدة مغلقة، فقد تلاشت بصور ملحوظة الهيمنة التي كان يُمارسها الواقع المفرد وهو يفكّر في تحوّلات العالم وأسئلته، وبرز تصوّر جديد ارتبط بوسائط التواصل الاجتماعي، وأصبح له حضور مُماثِل لمواصفات الواقع الفعلي.
اتجه مدوّنو وسائط التواصل إلى نقد الموقف الذي عَبَّر عنه ماكرون في البرلمان المغربي عندما وصف فعل المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى “بالهجوم البربري والإرهابي”
ارتبطت الزيارة بجملة من السياقات والأحداث المحلية والإقليمية والقارّية، كما ارتبطت بإشكالات سياسية وتاريخية يصعب عزلها عنها، ووجدت في الإعلام الرسمي الكيفيات التي تساعد في عمليات التخلص منها، حيث جرى الاكتفاء بعرض المواقف والعناوين الكبرى للخيارات الاقتصادية والمالية، المرتبطة بأشكال التعاون التي تم الاتفاق عليها بين الدولتين. أما مواقف الإعلام الرقمي وخطاباته وصوره، فقد رسمت للزيارة ومختلف ما دار فيها أبعاداً كثيرة، ابتداء من حفل الاستقبال والبروتوكول إلى حفل العشاء، ومروراً بخطاب ماكرون في البرلمان المغربي بغرفتيه. تحوّلت الزيارة في فضاءات العوالم الافتراضية إلى مناسبة لبلورة مواقف مختلفة بأصوات وصور ومعطيات ترتبط بالأدوار المنتظرة منها، بعد الأزمة الديمقراطية التي تعيشها فرنسا. كما جرى التوقف أمام الوضع الصحي للملك، حيث تَمّ إبراز لحظات ومواقف تتسم بكثير من الجهد وكثير من التحدّي، الأمر الذي يمكن أن يوضح أدوار الخيارات السياسية في بناء لحظات استثنائية في التاريخ وتاريخ العمل السياسي بالذات، بكل أسئلته وتحولاته.
لم يهتم إعلام الشبكات بالتحالف الاستراتيجي بين الدولتين، ولم يقترب كثيراً مما أطلق عليه بيان الزيارة اسم الشراكة الاستثنائية بين المغرب وفرنسا. واتجه مدوّنو وسائط التواصل إلى نقد الموقف الذي عَبَّر عنه ماكرون في البرلمان المغربي عندما وصف فعل المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى “بالهجوم البربري والإرهابي”. وتحدّث عمّا سمّاه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، متناسياً التفكير في حقوق الفلسطينيين في استرجاع أرضهم والدفاع عن أنفسهم. كان يُمَرِّر رسالة مكشوفة تعبر عن صور انخراط فرنسا في دعم المواقف الصهيونية وإسنادها. وإذا كان الإعلام الرسمي قد حاول إبراز اعتراف ماكرون بأخطاء الاستعمار الفرنسي في المغرب، إلا أنه لم يتعرّض لمواقفه المُعْلَنة من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولم يقترب من جرائم الحرب التي يُمارسها الكيان الصهيوني اليوم في فلسطين ولبنان.
ارتبطت زيارة ماكرون المغرب بجملة من السياقات والأحداث المحلية والإقليمية والقارّية، كما ارتبطت بإشكالات سياسية وتاريخية يصعب عزلها عنها
توقفت وسائط التواصل الاجتماعي أمام حجم الزيارة، وتحدّثت عن أهمية الاتفاقات التي أُبرمت، ولم تغفل الإشارة إلى ضيوف رافقوا الرئيس الفرنسي، حيث جرى التنديد بحضور برنار هنري ﻟﻴﭬﻲ المعروف بخياراته الصهيونية، وبالأدوار التي يمارسها في خدمة المشروع الصهيوني في فرنسا.. وقد التقطت أعين (وآذان) الفاعلين الجدد في وسائط التواصل الاجتماعي مواقف ساخرة من وقائع الزيارة وحفلاتها، الأمر الذي يعبّر عن مواقف تدعو إلى التفكير في علاقة السياسة بالحياة، وعلاقتها بعوارض الزمن وإكراهاته.
يحقّ لنا أن نتساءل أمام فيض المعطيات التي رسمت الفضاءات الافتراضية لزيارة ماكرون المغرب، وما قدّمه الإعلام الرسمي عن الزيارة، من كان منهما أكثر تعبيراً عن حقيقة ما تَمّ في الزيارة؟ وما هي أبعاد (ودلالات) المواقف التي جرى التعبير فيها عن بعض أوجه الزيارة وبعض علاقاتها وصورها؟ وهل يمكننا الحديث عن تكامل أدوار الفاعلين في المنتوج الذي برز في الإعلامين وعلاقته بكثير من أوجه التحوّل الجارية في عالمنا؟ ويمكن أن تضاف إلى ما سبق الإشارة إلى حجم التحولات وحجم المشاركة التي أصبحت تتيحها وسائط الاتصال الجديدة في بلورة المواقف، والتعبير عنها بكثير من الجهد وكثير من الخَلْط والتناقض.