ليبيا: آن الأوان لنبني وطنا يتسع للجميع

كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.
كأنّي بمدينة بنغازي وأهلها يقولون باسم ليبيا كلها: “للحرب وقت، وللسلم وقت”.. لقد آن الأوان لنضع الخلافات جانبًا ونبني وطنًا يتّسع للجميع.
عدتُ إلى بنغازي بعد سنوات طويلة من الغياب، أحمل في قلبي صورة مدينة لم تخن ذاكرتي يومًا: مدينة صمود، وكرامة، ونبض وطني لا يخفت. لم تكن العودة مجرد زيارة عابرة، بل لحظة تأمل في مسار وطن، وفي تحولات مدينة كانت دائمًا في قلب الأحداث، وها هي اليوم تستقبلني بذات الروح التي عرفتها، وإن كانت ملامحها قد تغيّرت بفعل الزمن والتحديات.
في هذه الزيارة، استرجعتُ بداياتي مع صحيفة “العرب” اللندنية، التي أرأس تحريرها، والتي أسسها والدي الراحل قبل خمسين عامًا لتكون صوتًا للحرية والفكر، وجسرًا بين الوطن والمهجر. كانت الصحيفة، ولا تزال، منبرًا للحوار، ومرآة تعكس هموم العرب في الشتات، وتفتح نوافذ على قضاياهم الكبرى. واليوم، في بنغازي، شعرت بأن تلك الروح تتجدد، وأن المدينة التي احتضنت الثورة، ودفعت ثمنًا باهظًا، بدأت تستعيد نبضها، وتعيد رسم ملامح مستقبلها.
لطالما كانت العلاقة بين السياسة والإعلام علاقة عضوية، لا تنفصل. فالسياسي هو خبز الإعلام، ودماؤه تجري في سطوره. في زمن هيمنة التواصل الاجتماعي والمعلومات المضللة، يبقى الإعلام التقليدي رمزًا للعمق، وأداة للتواصل الحقيقي، لا مجرد وسيلة لنقل الأخبار.
ليبيا، منذ 2011، عاشت سنوات عجافا، انقسم فيها الوطن، وتنازعت فيه القوى، وتكاثرت التدخلات الخارجية. والمنطقة الشرقية، بقلبها بنغازي، لم تكن بمنأى عن هذه العواصف، لكنها خرجت منها أكثر صلابة، وأكثر إصرارًا على استعادة دورها الوطني. وهي في أمسّ الحاجة إلى إعلام لإيصال صوتها إلى العالم.
ليبيا تستحق أن تكون وطنًا للجميع، وما رأيناه ولمسناه في بنغازي يؤكد أن المستقبل يبشّر بوحدة تقوم على الاعتراف المتبادل، والاحترام، والعمل المشترك. فليحيا الوطن حرًّا، موحّدًا، مزدهرًا
في شرق ليبيا، حيث يقود الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر مسيرة الاستقرار، بدأت علامات إعادة الإعمار تظهر بوضوح. إعادة افتتاح مطار خليج سرت بعد اثني عشر عامًا من الإغلاق، والجهود المتواصلة لبناء البنية التحتية، ليست مجرد مشاريع هندسية، بل رسائل سياسية واقتصادية تعزز الروابط الإقليمية، وتفتح آفاقًا جديدة للسفر والتجارة.
ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، وأبرزها التدخلات الخارجية التي تستغل الخلافات بين الشرق والغرب، وتُغذّي الانقسام بدل أن تُسهم في الحل.
في هذا السياق، جاءت تصريحات المشير حفتر الأخيرة لتؤكد أن الشعب هو صانع القرار الحقيقي، محذرًا من انهيار الدولة، وداعيًا إلى انتفاضة سلمية تنهي حالة الجمود السياسي، وتعيد للمواطن الليبي ثقته في مؤسسات بلاده.
كمراقب عن قرب، أرى في الإعلام فرصة حقيقية لدعوة الكتّاب والمفكرين للمساهمة في بناء الوعي الوطني، وتجاوز منطق الاصطفاف. فليبيا، بكل تنوّعها الجغرافي والبشري، تتسع للجميع: شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
بنغازي تتنفس هواءً جديدًا. لا يمكن إنكار الجهود الكبيرة التي بذلها المشير حفتر في إعادة الإعمار، وإحياء الأمل في نفوس الليبيين، خاصة الشباب. تحت قيادته، شهدت بنغازي تحوّلًا ملموسًا نحو الاستقرار، مع إعادة بناء البنية التحتية، وتعزيز الأمن، وفتح مسارات جديدة للتعليم والعمل. هذه الجهود، وإن كانت سياسية في ظاهرها، إلا أنها استثمار في مستقبل ليبيا الموحدة، التي لا تُبنى بالشعارات، بل بالمؤسسات، والفرص، والعدالة.
ومع هذا التقدم، تبقى هناك تحديات وأزمات إنسانية لا يمكن تجاهلها، وهناك حاجة ملحّة إلى مصالحة وطنية حقيقية. تجديد تفويض بعثة الأمم المتحدة حتى أكتوبر 2026 يُظهر أن المجتمع الدولي لا يزال يرى في ليبيا ساحةً تحتاج إلى دعم، لكن هذا الدعم يجب أن يُترجم إلى سياسات تُراعي السيادة، وتُعزز الحوار، وتُعيد بناء الثقة بين الليبيين.
في ختام هذه الزيارة، لا يسعني إلا أن أشكر بنغازي، وأهلها، على كرم الضيافة، وعلى الروح الوطنية التي لا تنكسر، وكأنّي بهم يقولون باسم ليبيا كلها: “للحرب وقت، وللسلم وقت”.. لقد آن الأوان لنضع الخلافات جانبًا ونبني وطنًا يتّسع للجميع.
ليبيا تستحق أن تكون وطنًا للجميع، وما رأيناه ولمسناه في بنغازي يؤكد أن المستقبل يبشّر بوحدة تقوم على الاعتراف المتبادل، والاحترام، والعمل المشترك. فليحيا الوطن حرًّا، موحّدًا، مزدهرًا.




