لماذا لا يفهم العراقيون مأساة بلدهم
كتب فاروق يوسف, في “العرب” :
العراقيون لا يزالون ينكرون أن المسافة التي تفصل بين وطنهم الحقيقي وبين الدولة التي فرضت عليهم لا تقاس بالكيلومترات ولا بالساعات
“ليس هناك من أمل” الجملة الأكثر شيوعا على ألسنة العراقيين؛ موالين ومعارضين لشكل ونوع ومحتوى الدولة الجديدة التي أقيمت في بلادهم على أنقاض العراق التاريخي الذي مزقه الغزو الأميركي وزادته الميليشيات والأحزاب المحلية تشتتا وحيرة وضياعا.
المزاج العراقي هو أصلا مزاج متشائم ويَغْلُبُ فيه الحزن على الفرح ويميل إلى النهايات المأساوية. ليست هناك حقيقة يمكن أن تصمد أمام تقلبات ذلك المزاج. وإذا ما وجدت مثل تلك الحقيقة فإن العراقيين يملكون القدرة على مقاومتها وغض الطرف عنها ونسيانها.
كانوا يمنون النفس بسقوط نظام الحزب الواحد الذي وصل به صدام حسين إلى نقطة اللاعودة. كان مفضلا بالنسبة إليهم أن يقوم الآخرون بذلك بدلا من أن يتورطوا في مواجهة، كانوا على يقين من أنهم سيخرجون منها خاسرين ومهزومين بسبب قسوة النظام الذي سيعوض هزيمته بالفتك بهم بعد أن فتكت به وبهم العقوبات الدولية.
مشاهد عمليات النهب التي شهدتها بغداد ومدن عراقية أخرى في اليوم الحزين الذي اجتاحت فيه القوات الأميركية العاصمة العراقية كانت حقيقية ولم تكن جزءا من فيلم رعب. لقد عبرت فئات من الشعب عن هزيمتها بطريقة تدعو إلى الاشمئزاز والقرف والبؤس الأخلاقي. أهو الفرح أم الحزن؟ هذا شعب يُجن حين يفرح أو حين يحزن على حد سواء.
عام 2019 اعترف العراقيون من خلال تظاهراتهم المليونية المطالبة بإسقاط النظام أن لا أمل في الخروج من المأزق في ظل بقاء ذلك النظام. أما وقد دُحرت انتفاضتهم فقد عادت اللعبة إلى أصولها. ومثلما فشل العراق الأميركي في تلبية مطالبهم فإن العراق الإيراني سيكون أشد قسوة عليهم.
وإذا كان النظام الطائفي القائم على المحاصصة بين أحزابه قد شعر يوم وقعت الانتفاضة بدنو أجله فإن خروجه سالما قد وهبه دروسا تعلم من خلالها كيفية إجهاض أية محاولة للتمرد الشعبي في المستقبل من غير أن يخضع للشروط التي كان المحتجون قد سعوا إلى فرضها عليه وبالأخص على المستوى الخدمي.
ستبقى البنية التحتية في العراق على ما هي عليه فلا إنتاج محليا للطاقة الكهربائية إلا بالاستعانة بإيران من أجل دعم اقتصادها ولا مياه نظيفة إلا عن طريق تحلية المياه التي ستكون غير صالحة للشرب. ولا مشاريع للصرف الصحي. كل ذلك يقع في قائمة المحظورات التي صار على العراقيين التعايش معها.
أما في قطاعي التعليم والصحة فإن العراق لن يشهد تحسنا فلن تبنى مدرسة واحدة أو مستشفى واحد. ذلك لأن كل البرامج الحكومية لا تتضمن أية فقرة تخرج عن المألوف وتعيد الاعتبار إلى تعليم المواطنين وتطبيبهم، بالرغم مما تشهده بغداد من عمليات إعمار اقتصرت على بناء مجمعات التسوق الكبيرة والمطاعم الفخمة.
لا يعكر العراقيون مزاجهم بالمزيد من التشاؤم وهم لا يفكرون في أن النظام الذي انتصر عليهم إنما ينفذ أجندات المشروعين الأميركي والإيراني اللذين يقومان أصلا على إبقاء العراق دولة فاشلة وعاجزة عن خدمة مواطنيها وصيانة كرامتهم والدفاع عن حقهم في التصرف بثرواتهم بطريقة عادلة ومنصفة. ذلك هو العراق الجديد الذي بشر به العراقيون أنفسهم وهم يحلمون بالانتهاء من زمن صدام حسين عن طريق الاستعانة بأعدائه الذين هم أعداء العراق في الوقت نفسه.
لذلك فإن قانون تحرير العراق الذي جرى إقراره من قبل الكونغرس الأميركي قبل سنوات من الغزو قد جرى تطبيقه على الأرض من غير أية حاجة إلى تعديلات بعد أن تأخر العراقيون في إدراك الفجوة التي تفصل بين أحلامهم الهوائية ووقع الجزمة الأميركية على الأرض وعلى رؤوسهم. ما فعله العراقيون بعد ذلك كان هو الأسوأ. جزء من ذلك أنهم انشغلوا بمشكلات الحكم التي كان النظام محتالا في ابتكار أشكال وأنواع مختلفة لها. ومن ذلك أيضا أنهم صدقوا أن الإرهاب صار اختراعا عراقيا من غير أن ينتبهوا إلى مصادره ومرجعياته. وبالنتيجة فإنهم استجابوا لمشروع النظام في تمزيق النسيج الاجتماعي الذي كان قائما. بحيث وافقوا على سبيل المثال أن يكون الجواهري شيعيا والسياب سنيا ومصطفى جواد كرديا والبياتي تركمانيا إلى أن حُرقت كتب شاعرهم الكبير سعدي يوسف أمام أنظارهم لأنه رفض أن يزوره أثناء مرضه في مقر إقامته بلندن أحد وزراء حكومة لا يعترف بشرعيتها.
لا يزال العراقيون ينكرون أن المسافة التي تفصل بين وطنهم الحقيقي وبين الدولة التي فرضت عليهم لا تُقاس بالكيلومترات ولا بالساعات بل هي مسافة كونية تستغرق ملايين الكيلومترات والسنوات. ولأنهم ما زالوا يفكرون في لحظة الفرج التي يصلح فيها النظام من أوضاعه، يمكن الحكم عليهم بأنهم ما زالوا غير قادرين على فهم وإدراك حقيقة المأساة التي تعيشها بلادهم.