أبرزرأي

لماذا انقبضت قلوب المصريين خوفا على قناة السويس؟

كتبت أمينة خيري في “إندبندنت عربية”: حين يختلط شح المعلومات بعنصر المفاجأة بقدر من الوطنية وما تبقى من حصة التاريخ ودرس التعبير وذاكرة السينما والتلفزيون على أرضية من المشاحنات الأيديولوجية وليدة “الربيع” والموروثات الشعبية التي لا تخلو من حس تآمري عال وتنكيت على “الصب في المصلحة” وأن ليس كل ما يدور يقال، تخرج أزمة قناة السويس الطاحنة الدائرة رحاها حالياً في الشارع المصري.

الشارع المصري استيقظ ذات صباح على “هبدتين” متزامنتين: الأولى على أثير الـ”سوشيال ميديا” حيث “قناة السويس” ترينداً ومثار صراخ وتغريد وصياح وتدوين وعويل و”منقول”، والثانية خبر مقتضب قوامه أن “مجلس النواب يناقش تعديل قانون هيئة قناة السويس”.

“الهبدتان” مثار القيل والقال منذ ذلك الحين. وأضيف إلى القيل والقال مكونهما الثالث حيث “قالك” إن مستشار الرئيس المصري لمشاريع محور قناة السويس مهاب مميش حذر مما يدور في البرلمان وناشد الرئيس بشكل غير مباشر عدم السماح بالتفريط في نقطة مياه واحدة، ووصف ما يدور بأنه “سرطان” يهدد هذه المنطقة بالغة الحيوية والأهمية.

أهمية فهم ما يجري تقوم على تشابك عشرات المشكلات والتوترات والتربصات الدائرة رحاها في الشارع المصري هذه الأيام. فبينما الجميع ما زال يصول ويجول في دوائر قرض صندوق النقد الدولي الأخير، وهو القرض الأكثر إثارة للجدل وتفجير التحليلات العقلانية ومنزوعة المنطق التي يعاد تدويرها بين ملايين المصريين بشكل محموم، وحلقة الغلاء المحموم الحالي الذي ينضم لسلسلة متواترة لا تهدأ من قفزات أسعار السلع والخدمات التي تدق على الرؤوس، بينما المعلومات الرسمية المتداولة تتسم بقدر بالغ من الحرص على رغم تداولها على نطاق واسع.

يعرف المصريون عبر قصص الأجداد ودروس التاريخ والجغرافيا كيف بدأت أعمال حفر القناة عام 1859 (مواقع التواصل)

سعة صدر المصريين واضحة تماماً انتظاراً لفك لوغاريتامات ما يجري حول القناة المرتبطة في أذهانهم وذاكرتهم بمعان وقيم وصور وتاريخ محفور عن القناة المختلطة فيها مياه البحرين الأحمر والمتوسط بدماء آلاف المصريين وعرقهم وقصص كل منهم المتحدية لرغبة “الباب العالي” وبريطانيا أكبر قوة استعمارية في التاريخ، لكن سعة الصدر لا تنفي سعة مجالات التخمين ودوائر التحليل وكثير منه يختلط فيه الغث بالسمين.

ثمن الإعلان الفجائي من دون مقدمات صباح يوم الإثنين الماضي لـ”قانون مقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 30 لسنة 1975 لنظام هيئة قناة السويس” كان فادحاً. كما أن تفاصيل الخبر حيث نص القانون المقترح وخط سير المناقشات تحت قبة البرلمان مع خلفيات عن اللجان المشتركة والنقاشات المنبثقة والترتيبات المتبعة لم تحل المعضلة الشعبية.

فبدءاً بفكرة الصندوق المملوك لهيئة قناة السويس، ومروراً ببنود التنمية والاستدامة، وانتهاء بتنويهات التطوير والمعايير والمقاييس، لم يتوقف المصريون كثيراً عند البنود والنصوص، بل عرجوا بحثاً عن كلمات مفتاحية كانت السبب في تأجيج حال القلق الشعبي والتوتر الجمعي.

جمع كثيرون كلمات وعبارات معروفة بقدرتها على استثارة قرون استشعار القلق ومجسات قياس منابع الخطر. “تمكين الهيئة (قناة السويس) من مجابهة الأزمات والطوارئ الناجمة عن ظروف استثنائية أو قوة قاهرة أو سوء الأحوال الاقتصادية”، و”استغلال أمثل للأموال”، و”استثمار في أوراق مالية”، و”شراء وبيع وتأجير واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة”، وغيرها لم ينجم عنها حماس لفرص استثمارية تحوم في الأفق أو اندفاع لتخيل ما قد ينجم عن ذلك من خيرات وفوائد وعوائد ومكاسب.

لسبب ما، يفسره بعضهم بقدرة فطرية شعبية على استشعار الخطر من دون شرط علم مسبق أو معرفة يقينية، وجم المصريون. وعلى رغم المناعة النفسية والحصانة العقلية اللتين اكتسبتهما ملايين على مدار 11 عاماً كاملة منذ مطلع “ربيع” يناير (كانون الثاني) 2011 حيث هواة الصيد في مياه المشكلات العكرة ومحترفي الافتئات على أزمات الوطن لا يفوتون فرصة إلا واقتنصوها لتشكيك الجموع في النظام وبث الفتنة في الشارع عبر الأثير العنبكوتي، إلا أن وسم “قناة السويس” الذي يشعل الأثير منذ يوم الإثنين لم يهدأ.

رموز جماعة الإخوان العنكبوتية والناشطة تويترياً وفيسبوكياً وغيرهما من منصات الـ”سوشيال ميديا” كثفوا من تغريداتهم وتدويناتهم وفيديوهاتهم وصورهم التي باتت معروفة ويتم حشدها في كل مناسبة مواتية، وذلك على أمل التهييج والتحريض ورجاء التأليب. تعاملت معها الغالبية باعتبارها تحصيل حاصل بات مكشوفاً، و”ستربتيز” جماعة أصبحت مفضوحة. وعلى رغم ذلك بقي القلق وساد الوجوم.

تصريحات محذوفة

وعظم من ذلك تصريحات أدلى بها مستشار الرئيس المصري لمشاريع محور قناة السويس مهاب مميش لصحيفة “المصري اليوم” حذرت بشدة من الموافقة على القانون الجديد بكلمات كان من شأنها تحويل القلق إلى خوف شديد، لا سيما أن مميش من مسؤولي الدولة وليس ممن يناصبونها العداء في الداخل أو الخارج.

قال مميش للصحيفة إن القانون الجاري منقاشته في البرلمان “يستحيل تنفيذه”، وإنه يفتح الباب لسابقة لم تحدث منذ عقود، ألا وهي وجود أجانب في إدارة قناة السويس قادرين على تغيير النظام الذي تقوم عليه إدارة القناة وظل يحقق عائدات وأرباحاً قياسية لسنوات طويلة.

ودق مميش على أحد أكثر أوتار المصريين حساسية، ألا وهو الدماء والعرق اللذين تكبدهما أجدادهم في حفر القناة في المرة الأولى (في إشارة إلى قناة السويس الأصلية التي بدأت أعمال حفرها في عام 1859)، وفي المرة الثانية بأموالهم تحت رعاية وتخطيط الرئيس “الذي لن يسمح أبداً بأي تفريط في نقطة ماء واحدة أو قناة السويس بشكل عام، بخاصة لكونه رئيساً مخلصاً لوطنه وشعبه”.

ومضت التصريحات غير المعتادة من أشخاص من قلب الدولة منتقدة بحذر شديد ومحذرة بنقد عميق القانون المقترح من ألفه إلى يائه. “من غير المعقول تغيير نظام ناجح والتحول إلى نظام مختلف كلياً يسمح بدخول أجانب مجلس إدارة الهيئة (هيئة قناة السويس)، بالتالي عمل تخلخل لهذا النظام الناجح الذي أداره المصريون بحرفية عالية منذ تأميم القناة”.

تأميم القناة محفور في ذاكرة كل من بلغ 66 سنة فأكثر. كما أنه محفور في ذاكرة الأجيال الأصغر سناً التي حفظت درس تأميم القناة عن ظهر قلب في مناهج التاريخ واللغة العربية والتربية الوطنية. التاريخ محفور. يوم 26 يوليو (تموز) عام 1956، أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من مدينة الإسكندرية قرار تأميم القناة. المادة الأولى نصت على أن “تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (شركة مساهمة مصرية) وتنقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات وتحل الهيئات واللجان القائمة حالياً على إدارتها. ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكون من أسهم وحصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية في باريس، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام تسلم الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة”.

الصياح الهادر والتأييد الرهيب والفرحة العارمة التي يعاد بثها عبر مقاطع مصورة وفي أفلام وثائقية تذاع في كل المناسبات الوطنية يعرفها الجميع. حتى أولئك المعارضون لعبدالناصر والمنتقدون لسياساته الذين يحملونه مسؤولية أخطاء سياسية وعسكرية وربما اجتماعية يحسبون له قرار التأميم.

وقبل قرار التأميم، يعرف المصريون عبر قصص الأجداد وأجداد الأجداد ودروس التاريخ ومناهج الجغرافيا كيف بدأت أعمال حفر القناة في 25 أبريل (نيسان) عام 1859 على رغم اعتراضات عاتية من بريطانيا و”الباب العالي” (الدولة العثمانية). وفي عام 1862 تدفقت مياه البحرين الأحمر والمتوسط في بحيرة التمساح (مدينة الإسماعيلية). وكانت منخفضاً من الأرض تحيطه كثبان رملية في منتصف المسافة بين مدينتي بور سعيد والسويس. وفي يوم 18 أغسطس (آب) عام 1869 تلاقت مياه البحرين الأحمر والمتوسط وأصبح هناك قناة كانت الأهم في العالم.

 “هل تبيع مصر قناة السويس؟!” السؤال الأكثر ترديداً في حوارات المصريين الجانبية في كل مكان (أ ف ب)​​​​​​​

قصص حفر القناة يعرفها قطاع عريض من المصريين عن ظهر قلب. فبين 74 مليون متر مكعب من الأتربة تمت إزاحتها اعتماداً على أيادي المصريين بشكل رئيس، وفرمان الامتياز الأول وما تلاه من فرمانات قبل بدء الحفر، وافتتاح القناة في حفل أسطوري ما زال كثيرون يحاكونه حتى اليوم، والحروب والاعتداءات التي تعرضت لها مصر بسبب أهمية القناة، واحتلالها وإغلاقها وتحريرها وإعادة فتحها بقرار تاريخي من الرئيس الراحل محمد أنور السادات في تاريخ بالغ الذكاء والدهاء ألا وهو 5 يونيو (حزيران) عام 1975، مما حول ذكرى الهزيمة إلى مناسبة فخر واعتزاز، ثم حفر قناة جديدة إلى جوارها، تشكل “قناة السويس” ذاكرة حية لدى الجميع.

الجميع في مصر نشأ على أن “هيئة قناة السويس” هيئة باتت مصرية 100 في المئة. تتغير أنظمة العالم الاقتصادية، وتتأرجح الدول بين اقتصاد مفتوح واشتراكي وحر ومختلط وغيرها، ويتوسع مفهوم الاستثمار تارة فيشمل قطاعات خاصة وحكومية ويتعولم فيصبح متعدد الجنسيات أو يبقي على فكر تملك الدولة والقطاع العام، وتبقى “هيئة قناة السويس” مصرية خالصة.

خلص المصريون المتابعون لحراك القناة إلى أن عراك القانون ليس أمراً عادياً حين تم حذف تصريحات مميش من الصحيفة المصرية. ويشار إلى أن اسم الفريق مهاب مميش مرتبط لدى القاعدة العريضة من المصريين بقناة السويس، فقد كان رئيساً لهيئة قناة السويس ودائم الظهور على شاشات التلفزيون، وذلك لأهمية القناة وضلوعها عنصراً رئيساً ومحورياً ليس فقط على صعيد التجارة والاقتصاد، لكن باعتبارها مكوناً رئيساً في السياسة. وعلى رغم صدور قرار رئاسي في أغسطس (آب) عام 2018 بتعيين الفريق أسامة ربيع رئيساً للهيئة خلفاً لمميش الذي تم تعيينه في منصب استشاري، إلا أن كثيرين يعتقدون أنه ما زال رئيس الهيئة.

الهيئة والقناة ومميش والبرلمان والنواب والقيل والقال في عين عاصفة المصريين هذه الأيام، ما تم تناقله بعد دقائق من مفاجأة مناقشة القانون تحت قبة البرلمان، وتحرك هواة الصيد في مياه الأخبار العكرة من المحسوبين والمتعاطفين ورموز جماعة الإخوان، إضافة إلى عدد من المعارضين للنظام المصري ومعهم عدد آخر من المعارضين لأي مساس بأصول الدولة وفي القلب منها قناة السويس المصرية صب في أغلبه حول عنوان شعبي مقلق مذيل بعلامة استفهام استفسارية تعقبها علامة تعجب استنكارية.

 “هل تبيع مصر قناة السويس؟!” السؤال الأكثر ترديداً في حوارات المصريين الجانبية على المقاهي والباصات وأماكن التجمعات المختلفة، إضافة بالطبع إلى منصات “السوشيال ميديا” وهامش من منصات الإعلام التقليدي المصري وغير المصري.

مصرياً، بادرت وسائل الإعلام إلى نشر تصريحات “جديدة” لمميش على مدار الساعات القليلة الماضية. أغلبها تم تصنيفه باعتباره إصلاحاً لتصريحات سابقة أو تضميداً لجراح تسببت فيها الكلمات أو ربما توضيحاً لمعان أسيء فهمها.

قال مميش في الساعات القليلة الماضية إن “قناة السويس خط أحمر ولن يتم التفريط فيها”، وإنها في “أيد أمينة ولا يمكن المساس بها”، وإن “عدم التفريط فيها هو موقف حاسم وواضح من الرئيس السيسي وتعليماته دائماً واضحة في هذا الشأن”، مكرراً غير مرة “اطمئنوا! قناة السويس في أيد أمينة، وهناك رئيس قوي يدافع عن حقوق الوطن ولن يسمح بالتفريط بحبة رمل واحدة من القناة”.

وعكس ما يعتقده بعضهم من أن القانون الذي أثار القلق والوجل والتوتر والغضب واللغط قد تمت الموافقة عليه من قبل جميع القابعين والقابعات تحت قبة البرلمان، وعلى رغم الأغلبية الموافقة، إلا أن أصواتاً معارضة أو فلنقل متحفظة، تم اقتفاء أثرها.

ذهب الصغار لاستحضار الحفار الصغير والسفينة الجانحة اللتين شغلا العالم أجمع في مارس عام 2021 (أ ف ب)

النائب البرلماني رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع عاطف مغاوري قال في تصريحات تلفزيونية إن موارد قناة السويس أساسية للخزانة العامة المصرية ويجب عدم الاستقطاع منها، محذراً من أن القناة لديها تسع شركات تستثمر في مشارع مختلفة، أما الصندوق الجديد فسيكون له مجلس إدارة وجمعية عمومية منفصلة، وله الحق في بيع وطرح الأوراق المالية، مما يعني أنه سيكون بمثابة جهة موازية لإدارة القناة.

كذلك فعل رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد النائب محمد عبدالعليم داوود الذي رفض القانون ووصفه بأنه “يفرغ موازنة مصر من أموالها ويستدعي الأجنبي للاستيلاء على الأصول الخاصة بالدولة المصرية من خلال طرحها بالبورصة”.

وشبه داوود قانون قناة السويس بـ”مشروع قانون كان قد طرح في سبعينيات القرن الماضي لبيع جزء من الأهرامات، وتصدت له نعمات أحمد فؤاد، وأقول للجميع تذكروا أنكم تتكلمون عن قناة السويس وليس شركة من الشركات، ونرفض هذا القانون”.

هذا القانون تحدث عنه كذلك، لكن من الضفة المقابلة، رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع الذي شارك في محاولات التخفيف من حدة القلق والتقليل من حجم اللغط. قال إن الصندوق الجديد لن يؤثر في المبلغ الذي تشارك به القناة في موازنة الدولة سنوياً، وأن المقصود بالأصول التي يمكن أن يبيعها هي تلك التي سيشتريها ويستثمر فيها بالأموال الموضوعة فيه وليست أصول قناة السويس، وأن أموال الصندوق ستأتي من “الفائض” الذي تحققه قناة السويس سنوياً.

كذلك فعل رئيس مجلس النواب حنفي الجبالي الذي ربما استشعر بأن كلمة “أصول” كانت سبب البلبلة وأس القلق، فقال إن ما يقصد بـ”أصول” هو “أموال الصندوق وليس القناة التي هي مال عام لا يمكن التفريط فيه”.

في تلك الأثناء، وكما جرى العرف على مدار سنوات ما بعد الإطاحة الشعبية بجماعة الإخوان، فإن كلمة “تفريط” يتداولها ناشطو الجماعة ومحبوها والمتعاطفون معها. ساعات طويلة يمضونها منذ تفجر أزمة القناة ينقبون فيها عن خطب الرئيس المخلوع الراحل التابع لجماعة الإخوان محمد مرسي عن القناة، إذ تحدث غير مرة عن مخطط الإخوان لـ”تنمية محور قناة السويس”، وما أثاره المقترح من مخاوف المصريين العاتية من بيع القناة ومحورها وما حولها لأنصار الجماعة في الداخل والخارج.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى