لماذا أصبح قطار التضخم والغلاء في مصر بلا مكابح؟
كتب د. عمرو هاشم ربيع, في “الجزيرة”.
في مصر، لا يتحدّث الناس عن شيء سوى التضخم والغلاء؛ فهما يمثلان قطارًا يسير بلا مكابح. حتى جهابذة الاقتصاد وجدوا أنفسهم عاجزين عن حلّ معضلات وألغاز الوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
يعتقد الجميع أن الحلول بسيطة، ولكن ما إن يبدأ التنفيذ حتى تظهر مشكلات لا حصر لها. كلما رُتق الثوب من ناحية، انفتق من أخرى. وكلمة السر دائمًا هي الدولار، حيث يتوقع الكثيرون ألا يحل منتصف العام إلا وقد وصل إلى 100 جنيه.
ورغم أن الدولة تعلّق إخفاقاتها الاقتصادية على شماعة خارجية تلو الأخرى: (أزمة كوفيد-19، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، ثم حرب غزة)، فإن السبب الأكبر وراء الأزمة هو الدين الخارجي الضخم (190 مليار دولار بعد إضافة 24.6 مليار دولار كفوائد لعام 2024)، والميزان التجاري المختل، مما وضع مصر في لحظة زمنية تتشابه من حيث الشكل والمضمون مع دولة الخِدَيو إسماعيل (1863-1879) الذي أطاح الدين الخارجي بكل إنجازاته.
جميع الحلول التي قدّمتها الدولة أدت إلى مزيد من التدهور. فرفع سعر الفائدة – الذي كان يهدف إلى جذب الأموال ومنع المضاربة في الدولار والذهب والعَقَارات – أدّى إلى عجز غير مسبوق في الاستثمار المحلي، وإلى المزيد من المضاربات.
ومحاولات جمع الدولار من الأسواق المحلية ومن المصريين في الخارج، برفع أسعار الفائدة عليه إلى 7%، فشلت أيضًا في تحقيق أهدافها، بل وكبدتها أعباء مالية جديدة، تشبه تلك الأعباء التي تكبدتها بسبب طرح شهادات لادخار الجنيه بعائد مرتفع وصل في منتصف يناير/كانون الثاني إلى 27%.
السيطرة على القطاعَين: الخاص والعام من قبل المؤسسات السيادية؛ بحجة إدارتها بشكل أفضل وإسنادها الأعمالَ من الباطن بالأمر المباشر، لم تؤتِ ثمارها. فلم تُدر هذه الشركات بكفاءة، ولم يُسدِد المالكون الجدد الضرائب المتوجبة، أو ينافسوا في السوق الحرة، مما أسهم في فشل القطاع الخاص المتبقي.
تواصَل تفاقم أزمة العملة، ووصل التضخم إلى 45٪ (ثم تراجع إلى 38٪)، وزادت أسعار الغذاء بنسبة 70٪، ولذلك؛ وبضغط من صندوق النقد الدولي، سعت الدولة إلى بيع الشركات التي تملكها لمستثمر إستراتيجي (خليجي تحديدًا)، ولكن المحاولة باءت بالفشل؛ بسبب رغبة المشترين في الشراء بثمن بخس.
مرحلة بيع عظام الدولة
وانتهت مرحلة بيع لحْم الدولة، وبدأ التفكير في بيع عظْمها، فطرح مشروع بيع أراضي سيناء التي تمثل منطقة أمن قومي حساسة، فُعُدل التشريع رقْم 143 لسنة 1981 ليسهل للمستثمرين الأجانب تملك أراضيها.
قبل ذلك، ولعقود طويلة، كان بيع هذه الأرض لغير المصريين من كبار الممنوعات، وكان بيعها للمصريين من أفراد وشركات محاطًا بقيود شديدة، أما سكان الأرض الأصليون من بدو سيناء فخرجوا من اللعبة بخفَّي حنين بعد أن ذاقوا الأمرّين ليحصلوا على سندات ملكية لمسقط رأسهم.
أخيرًا، صدرت وثيقة التوجهات الاقتصادية في يناير/كانون الثاني من هذا العام، لتتحدث عن دراسة خطط لتوريق نسبة من العائدات الدولارية تتراوح بين 20-25٪، مقابل سندات تطرح لمستثمرين دوليين بالعملة الأجنبية.
ورغم غموض تلك الخطط، فإنها أثارت المخاوف بشأن مصير قناة “السويس” بما تمثله من أهمية سياسية واقتصادية وأمنية، وذلك لأن التوريق يستهدف الأصول الثابتة التي تدر دخلًا من العملة الأجنبية، وليس لدى مصر في هذه الحالة ما ينطبق عليه هذا الوصف إلا قناة “السويس”.
خطط رهن قناة “السويس” مقابل الحصول على عملة أجنبية، وفقًا لهذا التفسير، هي عملية شديدة الخطورة؛ لأن الجهة التي سيتم رهن القناة لصالحها مقابل عقود توريق، ستضع يدها على هذا الأصل، حال عدم الوفاء بأقساط الدين وخدماته. وهذا هو السيناريو الأرجح في ضوء الفشل والشلل المتوالي، الناتج عن تنفيذ غير المتخصصين الذين تمتلئ بهم المؤسسات السيادية لرؤاهم غير المدروسة، وبذلك فإن القناة التي ارتبطت في أذهان المصريين باستقلالهم الوطني، ربما تصبح هي الأخرى في مهبّ الريح.
حلول الحوار الوطني
إزاء هذا الوضع الصعب، يجدر بنا أن نقول إن المحور الاقتصادي في “الحوار الوطني” أصدَر – في سبتمبر/ أيلول الماضي، وعقب عدة اجتماعات – عددًا من المقترحات لتحسين الأوضاع الاقتصادية، تضمنت تصورات لمواجهة العجز، وتحديد التوجهات الحكومية فيما يتصل بالاستثمار الخاص، ووضع آلية استثمار ميسرة في المجالات المختلفة لمستثمري الداخل والخارج، والتوسع في إنشاء المناطق الحرة العامة والخاصة، وإنشاء منصة لإتاحة المعلومات لربط أصحاب الأعمال وتحديد احتياجاتهم.
كما كانت هناك مقترحات مهمة تعالج أسباب تراجع الصناعة والزراعة، كتطوير المناطق الصناعية القائمة، وتحديث خريطة الاستثمار الصناعي، ورفع أسقف الحدود الائتمانية، ومراجعة الفجوات التصديرية بعد كل تغيّر في سعر الدولار، ودعم الزراعة التعاقدية وصناعة الأسمدة.
وتضمنت كذلك مقترحات لتطوير السياحة وهي ثاني مصدر للعملة الأجنبية، خاصة فيما يتعلق بضرورة رسم خريطة سياحية لمصر وتوفير محفزات للاستثمار السياحي بكل أشكاله… إلخ.
وقد سبق للرئيس عبد الفتاح السيسي أن ذكر أكثر من مرة أن المقترحات الصادرة عن هذا “الحوار الوطني”، سيتم تنفيذها دون نقاش، ولكن الحكومة بعد مرور نحو 5 أشهر على صدور تلك التوصيات، لم تعرْها اهتمامًا يُذكر، وقامت عوضًا عن ذلك بإصدار وثيقة توجهات اقتصادية، ودشنت منذ 16 يناير/كانون الثاني 2024 حوارًا حولها، وكأننا ندور في حلقة حوارات مفرغة لا نهاية لها، ولا طائل من ورائها، وتتحول في نهاية الأمر إلى “مكلمات”، لسان حال صاحب القرار إزاءها يقول: “أصدروا ما شئتم من مقترحات، وسنفعل نحن ما نشاء”.
المشكلة الرئيسة للتضخم، بل مشكلة الاقتصاد المصري برمته، ترتبط بإعادة النظر في الأولويات، والوقف الفوري للمشروعات التي أدت إلى الاقتراض الضخم، كمشاريع الطرق والمواصلات التي استهلكت وحدها نحو تريليوني جنيه (50 مليار دولار)، ومشروع العاصمة الجديدة، ومشروع العلمين، وغيرها.
من المهم كذلك اللجوء إلى سلّة من العملات تجعل الدولار مجرد عملة عادية، واتخاذ الإجراءات التي تحفز الصادرات، ووقف الاستيراد الترفيهي، وترشيد الإنفاق الحكومي، وحوكمة كافة الصناديق والحسابات الموازية، واتخاذ عدد من الإجراءات لاستعادة ثقة المصريين في الخارج باقتصاد بلادهم، ما يجعلهم مصدرًا لتقويته.