رأي

قرار “العدل الدولية” حول الإبادة في غزة وما بعده

كتب نبيل فهمي في صحيفة اندبندنت عربية:

باتت الجامعة العربية مطالبة بدراسة سريعة عن المحافل القانونية والإنسانية التي يمكن للفلسطينيين مخاطبتها لمحاسبة إسرائيل

يعلم الجميع أن جنوب أفريقيا تقدمت إلى محكمة العدل الدولية بقضية تتهم فيها إسرائيل بأنها خرقت اتفاقية الإبادة الجماعية، وطلبت في دفوعاتها الأساسية من المحكمة إصدار تسعة إجراءات احترازية كخطوة أولى، على رأسها وقف جميع العمليات العسكرية بشكل عاجل، إلى حين أن تبت في الاتهام الأصيل الخاص بممارسة الإبادة الجماعية وخرق الاتفاقية ذات الصلة، وهو ما يستغرق تقليدياً وقتاً طويلاً قد يمتد إلى عدة سنوات.

وحددت المحكمة المشكلة من 15 عضواً إضافة إلى عضوين يمثلان إسرائيل وجنوب أفريقيا يوم 26 يناير (كانون الثاني) الماضي لإعلان موقفها من طلبات الإجراءات الاحترازية، بما يعني أنهم سيفصلون في:

– إذا كانت دفوعات جنوب أفريقيا استوفت متطلبات إثبات أن الاتهام ضد إسرائيل يمكن تناوله أمام المحكمة في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 حول الإبادة الجماعية، التي تعرف هذه الجريمة.

– هل هناك أخطار حقيقية لأضرار جسيمة ضد الفلسطينيين يتعذر إصلاحها نتيجة العمليات العسكرية في غزة؟

وكان أمام المحكمة تبني كل الإجراءات المقترحة من جنوب أفريقيا، أو اختيار البعض منها، أو تجاوز الإجراءات الاحترازية المقترحة منها، والاكتفاء بتوصيات أخرى مثل مجرد مطالبة إسرائيل باحترام القانون الدولي وتوفير الحاجات الإنسانية الضرورية من غذاء ومياه وأدوية، أو حتى عدم قبول القضية أو التوصية بأي إجراءات احترازية.

ويعني قبول المحكمة القضية المطروحة واتخاذ قرار بالتوصية بإجراءات أن الأدلة والمدفوعات المقدمة من جنوب أفريقيا استوفت الشروط المطلوبة، وهي خطوة مهمة تعكس أن هناك تقديراً لسلامة الدفوعات القانونية، وقناعة لدى المحكمة بتوافر عواقب ومخاطر حقيقية من استمرار العمليات العسكرية. ويعني ذلك أيضاً رفض الدفوعات الإسرائيلية بعدم جدوى القضية والاتهامات، وأن المحكمة أقرت بخطورة الأوضاع الحالية، وأهمية اتخاذ إجراءات احترازية ضرورية، وهي قرارات لها دلالات مهمة، وتعتبر نجاحاً للجهد الجنوب الأفريقي المحترم.

وأوصت المحكمة بالفعل بمجموعة من الإجراءات الاحترازية، تطالب إسرائيل بتجنب إجراءات قتل متعمد للمدنيين، بمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين الذين يمارسون عمليات تحمل في طياتها اعتبارات خاصة بالإبادة الجماعية، وطالبتها بتسهيل المساعدات الإنسانية لأهل غزة، وبتأمين أي أدلة مرتبطة بالقضية المعروضة على المحكمة، بتقديم تقرير خلال شهر عن تنفيذها للإجراءات الاحترازية الذي طالبت بها المحكمة، وهي توصيات صادرة بموافقة الغالبية العظمى من القضاة أعضاء المحكمة، بمن في ذلك جميع القضاة من الدول الغربية، وشملت أحياناً حتى القاضي الإسرائيلي.

في المقابل هناك قدر غير قليل من الإحباط بين مؤيدي جنوب أفريقيا، وعلى وجه الخصوص لدى الرأي العام الفلسطيني، يتعلق بغياب إشارة واضحة ونص صريح ضمن الإجراءات الاحترازية المطلوبة بضرورة تنفيذ وقف إطلاق نار كامل وعاجل في غزة، وأتفهم وأقدر هذا الموقف.

ومع هذا فنقطة ضعف أخرى ومهمة في الإجراءات الاحترازية، كانت صياغة الإجراءات كدعوات لإسرائيل لبذل جهودها أو اتخاذ إجراءاتها لترجمة تلك الإجراءات إلى حيز التنفيذ، وهو ما يفترض حسن نية غير متوفرة لدى تل أبيب، وأكبر دليل على غياب ذلك هو تكرار إعلان إسرائيل حتى أمام المحكمة أنها تتخذ جميع الإجراءات الممكنة لتجنب إصابة المدنيين، على رغم أن ممارساتها على الأرض تعكس كذب ذلك كلية.

ويجب التنويه إلى أن الأحكام صادرة عن أعلى محكمة دولية، مما يعطيها وزناً ودلالات خاصة، وهي “آراء استشارية” ملزمة التنفيذ من الناحية النظرية، فإن المحكمة ليس لديها أدوات تنفيذية، ويتوقع أن تتجاهلها إسرائيل، فأثارها المباشرة ستكون في ما بين الدول التي تحترم القانون الدولي، وتسعى بالاحتفاظ بقدر من الاحترام للمؤسسات القانونية، بعد أن فقدت المؤسسات السياسية صدقيتها، فضلاً عن خشيتها تحمل مسؤولية قانونية إزاء تقديمها مساعدات أمنية وعسكرية لتل أبيب، بخاصة إذا تطورت الأمور القانونية، وكل ذلك سيزيد من الضغوط الدولية على إسرائيل وأصدقائها وحلفائها خلال الفترة المقبلة.

لن أبالغ في تصوير الإنجازات المتصلة بالرأي الاستشاري للمحكمة على أنها انفراجة أو انتصاراً للجانب الفلسطيني، ولن أخفي أنني كنت أتطلع صدور رأي صريح يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، أو أنفي أنني شعرت بقدر من الإحباط مع متابعة الرأي الاستشاري، وإنما يخطئ من يصور الأمر على أنه انتصار لإسرائيل التي اعتادت تجاهل القانون الدولي. وأعتبر قرار المحكمة خطوة أولى غير كافية وإنما مهمة، في التصدي للتجاوزات الإسرائيلية وتجاهلها القانون الدولي، وفي حشد الرأي العام والمؤسسات الدولية والقانونية للتصدي والتعامل مع هذه التجاوزات، وتحميل المتجاوزين مسؤولياتها.

ومن الواجب تقديم خالص الشكر والتقدير لجنوب أفريقيا على موقفها المبدئي المشرف، وتبنيها تلك القضية الإنسانية والسياسية على رغم كل الضغوط التي مورست ضدها وما ينتظر أن يتبع ذلك، موقف مبدئي حقيقة لا نستغربه على جنوب أفريقيا بعد عنائها الطويل ومسيرتها الوطنية ضد الظلم البشع والاضطهاد غير الإنساني، وكما أسجل تقديري للأداء الرفيع للفريق القانوني لهذا البلد الأفريقي، الذي كان مصدر اعتزاز وتفاؤل لكل صاحب قضية وحق مسلوب، وفخراً لكل أفريقي ومواطن من الدول النامية، وأتطلع أن تأخذ الدول النامية والعربية العبرة بما فعلته جنوب أفريقيا في طرح قضايا الحق أمام مختلف المحافل القانونية والإنسانية الوطنية أو الإقليمية أو الوطنية.

كما أوصي أن تعد جامعة الدول العربية دراسة سريعة عن المحافل القانونية والإنسانية الدولية والوطنية التي يمكن للفلسطينيين والعالم العربي مخاطبتها في هذا الصدد، على أمل أن تشكل خطة تحرك للعالم العربي وبعض الدول الرائدة فيه، وكنت قد طالبت مراراً بإعطاء مزيد من الاهتمام بمحاسبة إسرائيل على مخالفاتها الإنسانية، إلى حين تهيئة ظروف سياسية أفضل لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى