في بؤس هذه الزيارة التونسية إلى فرنسا
كتب سالم لبيض, في “العربي الجديد” :
أنهى رئيس الحكومة التونسية، أحمد الحشاني، يوم 1 مارس/ آذار الجاري، زيارة إلى فرنسا، هي الأولى له أوروبيا، والرابعة خارجيا، دامت ثلاثة أيام، التقى إثرها على عجل في مطار العوينة الرئاسي رئيس الجمهورية قيس سعيّد قبل سفره إلى الجزائر، ضيف شرف في القمّة السابعة لمنتدى البلدان المصدّرة للغاز، ليُطلعه على نتائج تلك الزيارة.
رافق هذه الزيارة، منذ البداية، جدل بشأن سرعة إنجازها، من دون إعداد مسبق للملفات والقضايا والأهداف، وخلوّها ممن يمثل اتحاد الأعراف وأصحاب الشركات ورجال الأعمال التونسيين، ومن طاقم فنّي ووزاري مصاحب، باستثناء وزير الخارجية ووزيرة الاقتصاد والتخطيط، ذلك أن الدعوة التي توجّه بها الوزير الأول الفرنسي (رئيس الحكومة)، غبريال أتال، إلى نظيره التونسي لزيارة باريس مضى عليها أقلّ من شهر.
شاءت الأقدار أن تتزامن الزيارة الأولى للمسؤول التونسي الرفيع المستوى إلى باريس مع استضافة الرئيس الفرنسي ماكرون أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في زيارة توّجت بتوقيع مجموعة من الاتفاقيات الاستثمارية بقيمة عشرة مليارات يورو وبحث الملفات الدولية الساخنة، ما حجب الأضواء عن وجود رئيس الحكومة التونسية بعاصمة الأنوار الفرنسية، حتّى أن الرئيس الفرنسي لم يعره أهمية ولم يستقبله بقصر الإليزيه على غرار زيارات مماثلة لشخصياتٍ أقل أهمية.
اتسمت زيارة رئيس الحكومة التونسية إلى فرنسا بالفقر في البرنامج وغياب الجدوى الاقتصادية والمالية، وغلبت عليها اللقاءات البروتوكولية مع ثلّة من أفراد الجالية التونسية، ورؤساء البعثات القنصلية، وممثلي الهياكل التونسية، والمنتخبين المحليين من ذوي الأصول التونسية، وعدة رجال أعمال تونسيين وأصحاب الشركات الناشئة في فرنسا. وهذا النوع من اللقاءات، يضمّن عادة في اللحظات الأخيرة في جداول المهمّات الرسمية، لإعطاء مصداقية مظلّلة على نجاح المهمّة ونجاعتها. في المقابل، كانت لقاءات المسؤول التونسي الفرنسية محدودة، واقتصرت على اجتماع برئيس منظمّة الأعراف الفرنسية في مقرّ السفارة التونسية بباريس، ولقاء الوزير الأول الفرنسي بصفة منفردة بقصر ماتينيون، وآخر رافقه فيه وزير الخارجية ووزيرة الاقتصاد والتخطيط وسفير تونس بفرنسا.
لم يعر الرئيس الفرنسي أيّة أهمية لرئيس الحكومة التونسية ولم يستقبله بقصر الإليزيه على غرار زيارات مماثلة لشخصياتٍ أقل أهمية
لم تفصح الزيارة عن عقد اتفاقيات استثمارية أو التوقيع على إقامة مشاريع كبرى بتونس وتمويلها كليا أو جزئيا، أو تقديم دعم مالي لتونس في شكل قروض أو هبات يساعد على إخراجها من أزمة المديونية المشطّة والمزمنة التي تعيشها أو التعهد بتحويل الديون التونسية لدى فرنسا إلى مشاريع اقتصادية وغير اقتصادية، أو الاتفاق على إرجاع الأموال التونسية المنهوبة والمحتجزة في البنوك الفرنسية والأوروبية لفائدة عائلة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وأصهاره، أو التداول في الوعود الفرنسية القديمة على غرار تمويل مشروع القطار.
اكتفى الوزير الأول الفرنسي غبريال أتال (34 سنة)، في مداخلته المكتوبة (خمس دقائق) في أثناء النقطة الإعلامية المشتركة بالخوض في العموميات والأحاديث الرومانسية عن العلاقات التاريخية التونسية الفرنسية المتميّزة والشراكات الاستراتيجية بين البلدين والسيادة الغذائية المزعومة، مستذكرا وجود ما يناهز 1500 شركة فرنسية، قابلة للتطوير، تعمل في تونس يستفيد منها الطرفان، التونسي والفرنسي، على حدّ السواء حسب قوله. وأن بلاده التي ستستلم من تونس الشعلة الفرنكفونية في أثناء عقد قمتها المقبلة هذا العام بباريس، مستعدّة لتصدير الحبوب الفرنسية إلى تونس. ولم تغب عنه الإشارة إلى الجانب العاطفي الذي يجمعه بالضيف التونسي، فهو مولودٌ لأب فرنسي من أصول يهودية تونسية وأن والدة ضيفه تونسية من أصول فرنسية.
في المقابل، جاءت كلمة رئيس الحكومة التونسية أحمد الحشاني (68 سنة) المرتجلة على مدى 12 دقيقة ثقيلة الوقع على المتابعين والملاحظين لصعوبة توليد الأفكار والتعابير الملائمة الواضحة والبسيطة وعدم تسلسلها وانتظامها وقلّة سلاستها وانسيابها، وركاكة اللغة الفرنسية التي تكلّمها، وهو مسوّقه فرنكفوني الثقافة وفرنسي اللسان في أثناء توليته من الرئيس قيس سعيد في صيف 2023، حتى يفتح له الأبواب الدولية الموصدة، ناهيك أنه لا يتقن اللغة العربية (اللغة الرسمية) ولا يجيد استعمالها كما بان ذلك بوضوح في المناسبات القليلة التي خاطب فيها أبناء جلدته، مثلما هو الأمر عند تقديم بيان الحكومة أمام البرلمان بمناسبة مناقشة موازنة الدولة التونسية في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة المنقضية.
التداول في الشأن الداخلي الفرنسي مع الأجانب، مهما كان مستواهم السياسي ورفعتهم الدبلوماسية، معيب أخلاقيا ويرتقي إلى مستوى الجريمة
كلمة الحشاني، الملقّب من مضيفه بالوزير الأول، بدلا من رئيس الحكومة كما هو مدوّن في النصوص الدستورية التونسية، كانت منذ البداية محكومة بالخوف من البرنامج المزمع بثّه على قناة M6 الفرنسية الأحد 3 مارس/ آذار الجاري، وهو تحقيق تلفزي يحمل عنوان “تونس بين البؤس والدكتاتورية: العودة الكبرى إلى الوراء”. فقد عبّر عن خوفه بصريح القول قائلا “صحيح أن بعض الأطراف الشريرة ربما لعبت دورًا كامنًا في نشر الأكاذيب. فقد تم إخباري عن برنامج سيتم بثه خلال يومين، والذي لم يأت مصادفة، على الأقل في رأيي، لمحاولة إيقاف الآلة التي يتم إعادة تشغيلها بين فرنسا وتونس حتى يمكننا أن نتصوّر أنه كان هناك عمل غير ودّي من جانب أصدقائنا الفرنسيين”.
ولا يعدّ هذا الموقف معزولا أو وليد المصادفة، فهو يتناغم مع ما ذكّره الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 28 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) في أثناء استقباله وزير الداخلية، كمال الفقي، بمعية المدير العام للأمن الوطني وآمر الحرس الوطني، قائلا “لا تسامح مع من يرتمي في أحضان الخارج استعدادا للانتخابات، ويتمسّح كل يوم على أعتاب مقرّات الدوائر الأجنبية”. مضيفا، “ومن بين الطرق التي لجأوا إليها هذه الأيام وسائل إعلام مأجورة يتم الاستعداد لبعثها أو برامج تلفزية يتم الترتيب لبثّها”، قاصدا بذلك معارضيه المقيمين بفرنسا أو بغيرها من العواصم، متهما إياهم بالوقوف وراء البرنامج الذي أعدّته القناة الفرنسية.
استغلّ الحشاني النقطة الإعلامية المشتركة مع الوزير الأول الفرنسي للحديث عمّا سمّاها “العشرية السوداء” التي عرفتها تونس وما “أحدثته من ضرر” حسب قوله، وهو يقصد الفترة من 14 يناير/ كانون الثاني 2011 تاريخ سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى يوم 25 يوليو/ تموز 2021 تاريخ تولي سعيّد كل السلطات مدخلا إلى حكم مطلق على أنقاض التجربة الديمقراطية حديثة العهد الغضّة والطرية. ومن دون الدخول في التعريج على ذلك الوصم ومدى صحته، فإن إيتيقا السياسة والمبادئ الوطنية والقوانين التونسية تقتضي أن لا يقع الحديث في الشأن الوطني الداخلي مع قادة دول أجنبية ناهيك عن أن يكونوا قادة الأمة الحامية القديمة والدولة الاستعمارية التي جثمت على صدر تونس 75 سنة من دون انقطاع.
لم تفصح الزيارة عن اتفاقيات استثمارية أو التوقيع على إقامة مشاريع كبرى في تونس، أو تقديم دعم مالي لهذا البلد على شكل قروض أو هبات
لم يستفد رئيس الحكومة الذي التحق بعالم السياسة التونسية خمس سنوات بعد إحالته على التقاعد، وهو الذي أمضى ردحا من حياته موظّفا مغمورا بإدارة الشؤون القانونية بالبنك المركزي التونسي، من التجربة المحدودة للشاب والوزير الأول الفرنسي الذي لم يذكر كلمة واحدة عن الصراعات السياسية والأزمات المجتمعية التي تشقّ بلاده، مثل صعود اليمين المتطرّف واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء التي دامت أكثر من سنة وغلق الطرقات السيارة من فلاحي فرنسا وطردهم الرئيس الفرنسي من المعرض الفلاحي السنوي. فهو يدرك أن التداول في الشأن الداخلي الفرنسي مع الأجانب، مهما كان مستواهم السياسي ورفعتهم الدبلوماسية، معيب أخلاقيا ويرتقي إلى مستوى الجريمة التي تضع صاحبها تحت طائلة القوانين الفرنسية، وتحول دون استمراريته السياسية وتقلّل من حظوظه المستقبلية. بينما لم ير رئيس الحكومة التونسية حرجا في أن يتحدّث في القضايا والصراعات الداخلية، وأن يُطلع “الوزير الأول الفرنسي، على التقدّم الذي أحرزته تونس في مختلف المجالات، وجهودها الرامية إلى تكريس مناخ الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي”، وفق النصّ المنشور في صفحة رئاسة الحكومة التونسية على فيسبوك.
لم تمر زيارة رئيس الحكومة التونسية إلى فرنسا عابرة من دون ردود أفعال، فقد صاحبها نقدٌ حادٌّ من السياسيين، وسجالٌ بشأن كفاءة الرجل ومدى جدارته لتحمّل ثاني أهم وظيفة في الدولة التونسية، وجاهر إعلاميون ومدونون بالحديث عن فشل الزيارة وتحوّلها إلى مدعاة للتندّر، وبدعوة الرئيس قيس سعيّد تغيير رئيس حكومته، لفقدانه الخبرة السياسية والقدرات الاتصالية والتجربة التاريخية والحدّ الأدنى من المؤهلات القيادية.