فرنسا ومناورات “القطب الثالث”
جاء في مقال للدكتور سالم الكتبي في صحيفة السياسة الكويتية :
أثارت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصين اخيراً الكثير من الجدل، وتمحور أغلبه حول تصريحات ماكرون بشأن العلاقات الأوروبية مع كل من الصين والولايات المتحدة. وقد شدد على تمسكه بضرورة توثيق التعاون مع بكين، وكان يتحدث في بكين وبصحبته عدد من رجال الأعمال ورؤساء الشركات الكبرى.
كما حرص على إعادة توصيف العلاقات مع واشنطن بشكل لافت، قائلاً إن التحالف مع الولايات المتحدة لا يعني أن تكون “تابعاً لها”، ولا يعني إن لم يعد من حقّك أن يكون لك “تفكيرك الخاص”، اضاف: “فرنسا تؤيّد الوضع القائم في تايوان، وتؤيد سياسة الصين الواحدة والتوصّل لتسوية سلمية للوضع”. فكرة “السيادة الأوروبية” التي يتمسك بها ماكرون تتنافر في جوهرها مع تأكيدات مصدر ديبلوماسي فرنسي أن باريس حليف موثوق به لواشنطن، على الأقل من وجهة النظر أو التفسير الأميركي لمفهوم “الحليف”، لاسيما في المسألة التايوانية، وذلك رغم أن واشنطن نفسها تتعامل مع حلفائها الاقرب بشكل زئبقي يرتهن إلى مصالحها الذاتية، وليس إلى مقتضيات الصيغة التي تربط الحلفاء بعضهم ببعض.
ولعل تعاملها مع دول “مجلس التعاون”الخليجي، وحلفائها الشرق أوسطيين هو المثال الأقرب الذي يقفز إلى الذهن عند الحديث عن المنظور الأميركي لصيغة الحليف الستراتيجي. ويبدو أن الرئيس الفرنسي قد التقط هذه الفكرة، وبات يتعامل مع الحليف الأميركي من المنظور نفسه، بمعنى الاكتفاء بترديد العبارات والكلمات، والمفاهيم، من دون ترجمة ذلك إلى سلوك أو مواقف فعلية على أرض الواقع.
لا شك تبني ماكرون الموقف الصيني بشأن تايوان، يمثل انسلاخاً من مقتضيات علاقة التحالف التي تريدها الولايات المتحدة، والمسألة هنا لا تتعلق بفكرة التبعية والأتباع، فواشنطن تريد من حلفائها تبني المواقف ذاتها، لاسيما في حالات محددة بدقة، أبرزها تايوان، حيث تواجه أزمة معقدة بشأن ما يتعين عليها فعله إزاء رغبة الصين المتزايدة في بسط نفوذها على الجزيرة.
ولاشك أن تصريحات الرئيس ماكرون تمثل تحولاً لافتاً في موقفه، ونجاحاً لديبلوماسية الصين الاقتصادية والاستثمارية، فهو من كان يدعو إلى التعامل بحزم مع الصين، وبات يدعو إلى توثيق التعاون معها.
ويؤكد الا ينبغي لأوروبا أن تورط نفسها في أزمات لا تخصها، في إشارة واضحة إلى أزمة تايوان بين الصين والولايات المتحدة، ويطالب بتوحيد الصف الأوروبي، والبحث عن مصالح الأوروبيين وسط الخلاف الصيني- الأميركي، واصطحب معه رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين في زيارته تلك.
تصريحات ماكرون لم تثر غضباً وقلقاً في واشنطن فقط، بل في أوروبا أيضاً، حيث تخشى بعض العواصم الأوروبية أن تتخلى واشنطن عنها في أزمة أوكرانيا، وتتركها لمصيرها في وقت يتفق فيه الجميع على أن أوروبا لا تستطيع ـ حاليا على الأقل ـ الدفاع عن نفسها في مواجهة أي تهديد عسكري روسي يتجاوز أوكرانيا، وهذا ما يفسر وصف بعض الساسة الأوروبيين لتصريحات ماكرون أنها تمثل “كارثة” للسياسة الخارجية الأوروبية.
البعض يرى أن تايوان لا تحظى لدى أوروبا بالأهمية التي تحظى بها لدى الولايات المتحدة، ويرد آخرون أن أوكرانيا أيضاً لدى واشنطن ليست بأهميتها لدى الأوروبيين، وبالتالي كان على ماكرون توخي الحذر وتفادي السقوط في فخ المقارنات غير المباشرة في وقت تتواصل فيه حرب أوكرانيا من دون أي أفق للتسوية السياسية.
البعض فسر تصريحات ماكرون في ضوء أمور عدة، منها رغبة فرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي تحت شعار “الاستقلال الستراتيجي”، والدعوة لأن تكون أوروبا “قطباً ثالثاً” مستقلاً عن واشنطن وبكين، ومجاراة الموقف الألماني الذي برز خلال زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس لبكين، قبل زيارة ماكرون لها، حيث اصطحب أيضاً رؤساء الشركات الألمانية الكبرى، رافعاً شعار “ألمانيا أولاً”. فضلاً عن رغبة ماكرون في الرد على موقف الولايات المتحدة الخاص بعقد تحالف “أوكوس” مع بريطانيا واستراليا، والمجازفة بتضرر فرنسا جراء إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية إلى أستراليا، بقيمة 40 مليار دولار، وهو الموقف الذي وصفته باريس أنه “طعنة في الظهر”، فضلاً عن مبيعات الغاز الأميركية لحلفائها الأوروبيين بأسعار عالية للغاية. ولهذا، فإن موقف ماكرون ليس تخلياً عن علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، بقدر ما يمثل لعباً بالأوراق الستراتيجية التي تمتلكها، ففرنسا ترى نفسها في موقف قوي بالنسبة لأهداف الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحتفظ بوجود عسكري في تلك المنطقة، ولديها القدرة على دعم الولايات المتحدة ستراتيجيا في صراع النفوذ مع الصين، وبالتالي فهي تستحق معاملة أفضل من التي تتبناها واشنطن حيالها.
في مقابل ذلك لا يمكن لفرنسا تجاهل الشريك التجاري الصيني، الذي يحتل المرتبة الخامسة في قائمة شركائها التجاريين، وبالتالي فهو يحاول توظيف هذه المعطيات بحثاً عن مستقبل “القطب الثالث” رغم المعارضة الشديدة التي يواجهها داخل الأوساط الأوروبية التي ترى أنه من الخطأ تدمير العلاقات عبر الأطلسي، والنيل من التعافي الذي حدث عقب تولي جو بايدن السلطة في واشنطن، بعد فترة من تراجع العلاقات الأوروبية- الأميركية في عهد سلفه دونالد ترامب.