رأي

فرنسا لا تزال تطمح إلى موطئ قدم في جنوب ليبيا

كتب الحبيب الأسود, في “العرب” :

فرنسا تسعى بقوة للعودة إلى فزان عن طريق حلفاء لها هناك وإذا كانت روسيا منافسها الأكبر في جنوب ليبيا فإن طرفا آخر يسعى إلى منافستها والتضييق عليها وهو الجزائر.

في الوقت الذي تتحدث فيه المصادر الغربية عن نجاح روسيا في التوصل إلى اتفاق يمكنها من استعمال القاعدة الجوية معطن السارة بجنوب شرق ليبيا لتوسيع نفوذها في المنطقة، لا تزال فرنسا تبذل جهودا واسعة من أجل الحصول على موطئ قدم في إقليم فزان التاريخي. هذا ما تم التطرق إليه مع جملة مواضيع أخرى خلال اللقاء الذي جمع أواخر فبراير الماضي في باريس القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

قبل 2011، كانت فزان منطلقا للنفوذ الجيوسياسي الليبي في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما ساعد على تكريس حالة من الاستقرار سرعان ما انهارت بعد دخول البلاد في حالة من الفوضى في العام 2011 وبعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. قد يكون من المفارقات أن فرنسا، الدولة التي كانت أكثر اندفاعا للتدخل العسكري في ليبيا، كانت أكثر الدول خسارة في المنطقة بعد طردها شر طردة من مستعمراتها السابقة بسبب انفلات الوضع الأمني واختلال المعادلة الجيوسياسية والإستراتيجية، وظهور الدب الروسي كقوة توسع تعمل على إحياء إرث العلاقات التي كان الاتحاد السوفياتي شكلها مع زعماء معارك التحرير وبناة الدول الوطنية في القارة السمراء.

حاولت فرنسا دائما أن تطأ قدماها أراضي فزان الشاسعة، والثرية بالنفط والماء والمعادن النفيسة والطاقات البديلة، والمدهشة بسحرها الطبيعي وذات الامتداد الجغرافي الواسع الذي جعل منها بوابة الصحراء الكبرى. حتى إن من يبسط نفوذه على فزان يبسطه على المنطقة ككل ويمتد به من الضفة الجنوبية للمتوسط إلى ما وراء الصحراء. لعل من أكثر الحقائق لفتا للانتباه أن مساحة فرنسا وفزان تكاد تتطابق، حيث تبلغ مساحة فزان 551.170 كلم مربع بينما مساحة فرنسا 551.500 كلم مربع، والفرق بينهما 330 كلم مربع فقط. بالمقابل، فإن عدد سكان فزان لا يتجاوز نصف مليون نسمة بينما يتجاوز سكان فرنسا 70 مليون نسمة.

◄ اليوم تجد فرنسا نفسها في وضع لا تُحسد عليه، خاصة في مستعمراتها السابقة التي اختارت شعوبها التضحية بديمقراطية الفقر والخضوع لأنظمة عسكرية ترفع شعارات الدفاع عن السيادة الوطنية وتأميم الثروات

تسترجع فرنسا تاريخها في فزان، وتعيد قراءته في سياقاته لتبحث من وراء ذلك عن سياقات جديدة تسعى إلى فرضها وتكريسها لخدمة مصالحها. في 31 مارس 1899، عقدت الحكومتان الفرنسية والبريطانية اتفاقا لتسوية الخلافات بينهما حيث تنازلت فرنسا لبريطانيا عن بحر الغزال وبحر العرب ودارفور مقابل نيلها حق التوسع في شمال وشرق بحيرة تشاد، الأمر الذي يحقق لها ربط ممتلكاتها في شمال وغرب أفريقيا. وبذلك كان إقليم فزان ضمن الاتفاق ليتحول إلى نقطة وصل بين مستعمراتها في شمال وغرب أفريقيا. لكن النفوذ الفرنسي الفعلي على الإقليم لم يتعزز إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وانضمام فرنسا إلى جانب دول الحلفاء وإعلان إيطاليا الحرب تحالفا مع دول المحور، الأمر الذي دفع إلى اتفاق فرنسي – بريطاني جديد على أن تزحف القوات الفرنسية بقيادة الجنرال لوكريك من تشاد وتحتل إقليم فزان الواقع على امتداد صحراء جنوب غرب ليبيا والذي يرتبط بحدود مع ثلاث مستعمرات فرنسية آنذاك في الجزائر والنيجر وتشاد.

اتصل الجنرال شارل ديغول بالأمير إدريس السنوسي، واتفق معه على غرار الاتفاق مع الإنجليز على تكوين نواة جيش من الليبيين المهاجرين إلى مصر للمشاركة في القتال ضد قوات المحور. وشمل الاتفاق أن يقوم الأمير بتكليف أحمد سيف النصر وبعض الليبيين المهاجرين إلى النيجر وتشاد بتشكيل قوة عسكرية تحت إشراف فرنسي للدخول إلى إقليم فزان مع القوات الفرنسية المهاجمة للقوات الإيطالية المحتلة لفزان. وتقدمت القوات المشتركة الفرنسية – الليبية للسيطرة على فزان وانتزاعها من الاحتلال الإيطالي، وألحقت الهزيمة بالقوات الإيطالية.

في يناير 1943، تم الإعلان عن نجاح قوات فرنسا الحرة في طرد القوات الإيطالية من إقليم مرزق واحتلال عاصمته التاريخية مرزق لتستمر السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951، عندما أصبحت فزان ولاية من الولايات الثلاث التي تتكون منها المملكة الليبية المتحدة بعد استفتاء أجراه أبناء الإقليم.

في مارس 1949، اتفقت فرنسا مع بريطانيا وإيطاليا على مشروع “بيفن سفورزا” الخاص بليبيا، والذي يقضي بفرض الوصاية الإيطالية على إقليم طرابلس والوصاية البريطانية على برقة والوصاية الفرنسية على فزان، على أن تُمنح ليبيا الاستقلال بعد عشر سنوات من تاريخ الموافقة على مشروع الوصاية. وقد وافقت عليه اللجنة المختصة في الأمم المتحدة ورفعته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاقتراع عليه، ولكن المشروع باء بالفشل لحصوله على عدد قليل من الأصوات المؤيدة، نتيجة للمفاوضات المضنية لحشد الدعم لاستقلال ليبيا التي قام بها وفد من أحرار ومناضلي ليبيا للمطالبة بوحدة واستقلال البلاد.

وفي 21 نوفمبر 1949، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا اقترحته وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة ينص على أن ليبيا يجب أن تصبح مستقلة قبل 1 يناير 1952. فصوت لصالح القرار 48 صوتا إلى جانب معارضة الحبشة وغياب تسع دول منها فرنسا وخمس دول شيوعية، وتم تكوين لجنة للعمل على تنفيذ قرار الأمم المتحدة ولتبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق استقلال كامل التراب الليبي ونقل السلطة إلى حكومة ليبية مستقلة.

كان مشروع “بيفن سفورزا” بمثابة خطة استعمارية جرى إعدادها من قبل وزيري خارجية إيطاليا وبريطانيا، كارلو سفورزا وإرنست بيفن. كان تمريرها عبر الأمم المتحدة كفيلا بتغيير مصير ليبيا وربما وضعها تحت وصاية لا تنتهي، لاسيما في ظل اكتشاف النفط والغاز ونظرا لأهمية موقعها في تأمين مصالح أوروبا وقواها الاستعمارية المتمددة في شمال ووسط القارة الأفريقية.

◄ فرنسا تسترجع تاريخها في فزان، وتعيد قراءته في سياقاته لتبحث من وراء ذلك عن سياقات جديدة تسعى إلى فرضها وتكريسها لخدمة مصالحها

بعد القرار الأممي الحاسم، أعد الفرنسيون خطة لإقامة حكم ذاتي في فزان، وكان الهدف اقتطاعه لاحقا وضمه إلى مستعمراتها الأفريقية المجاورة في الجزائر والنيجر وتشاد. ومن هناك، اتجهت لإنشاء برلمان منتخب للإقليم، وهو ما تم بالفعل في 12 فبراير 1950 عندما تم انتخاب مجلس تشريعي مكون من 58 عضوا، ومن داخله تم انتخاب أحمد سيف النصر رئيسا للإقليم. وتم الاتفاق على بقاء فزان تحت وصاية فزان من خلال سلطة الحاكم العسكري العام، وأعلنت سلطات فرنسا عن استعدادها للاعتراف باستقلال ليبيا ولكن بشرط أن تتبنى دستورا اتحاديا يضمن الإبقاء على نظام الأقاليم.

نجح الليبيون في الاستفادة من التحولات التي كانت تشهدها دول المنطقة بعد استقلال تونس والمغرب والعدوان الثلاثي على مصر وتشكل حالة أفريقية عامة تنادي بالاستقلال من المستعمرين الأجانب. ليتم في 26 ديسمبر 1956 التوقيع الرسمي على اتفاقية الحدود بين فرنسا وليبيا، والتي تقضي بجلاء القوات الفرنسية عن فزان، وهو ما حدث بالفعل في 30 نوفمبر من العام ذاته، ولكن دون أن تتخلى فرنسا عن أطماعها في الإقليم، الذي حاولت المحافظة على علاقات قوية مع نخبه لاستخدامها في الوقت المناسب.

اليوم تجد فرنسا نفسها في وضع لا تُحسد عليه، خاصة في مستعمراتها السابقة التي اختارت شعوبها التضحية بديمقراطية الفقر والتبعية والخضوع لأنظمة عسكرية ترفع شعارات الدفاع عن السيادة الوطنية وتأميم الثروات ومكافحة جماعات الإرهاب، التي لم تكن تحركاتها بعيدة عن مخططات المخابرات الغربية. لا يمكن الفصل بين دول مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وجنوب ليبيا، الذي لطالما كان امتدادا لتلك الدول اجتماعيا وثقافيا وتجاريا وأمنيا وإستراتيجيا. وهو ما تدركه روسيا جيدا ويؤمن به المشير حفتر منذ كان يقود الحرب في ثمانينات القرن الماضي ضد قوات نظام حسين حبري المدعوم آنذاك من فرنسا والولايات المتحدة.

تسعى فرنسا اليوم بقوة للعودة إلى فزان عن طريق حلفاء لها هناك. وإذا كانت روسيا منافسها الأكبر في جنوب ليبيا، فإن طرفا آخر يسعى إلى منافستها والتضييق عليها وهو الجزائر، وهو ما يعني ببساطة أن أي محاولة لتمكين فزان من حقوقه كإقليم ثالث بمجلس تشريعي مستقل، سيكون مآلها الفشل. لا قوات حفتر ستترك المنطقة، ولا حلفاؤه مستعدون لفتح المجال أمام فرنسا حتى تعود إلى مستعمرتها السابقة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى