فرصة التشكيل السورية الجديدة

كتب حسان الأسود في صحيفة العربي الجديد.
قبل مائة عام ونيّف، مرّت سورية بلحظة التشكيل الأولى. كان العالم وقتها يعيش مخاض الولادة الذي رافق الحرب العالمية الأولى، وكانت مشاريع اقتسام العالم تُدرّس في عواصم أوروبا التي لم تصبح عجوزاً بعد. نتج عن الحرب انهيار أربع إمبراطوريات؛ الروسية والنمساوية المجرية والألمانية، وكان آخرها العثمانية. كان السوريون، كما عرب المشرق في الحجاز والعراق وبقية بلاد الشام، يعرّفون أنفسهم قبل مشاركة قوات الشريف حسين مع الحلفاء في الحرب مواطنين عثمانيين، وقد كانت نقاشات نخبهم المتشكّكة في نيّات الحفاء الغربين تذهب إلى وجوب الدفاع عن إسطنبول في حال وصلت إليها جيوش الحلفاء، كان منطلقهم في ذلك أنها عاصمة الخلافة الإسلامية، ولا يمكن السماح بإسقاطها. من هذا المنطلق، كانت مساهمة العرب، والسوريون تحديداً (بالأخصّ منهم أهالي حلب)، كبيرةً في معارك الدفاع عن الإمبراطورية، تُثبت ذلك سجّلات معركة جناق قلعة أو حملة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى، من 19 فبراير/ شباط 1915 إلى 9 يناير/ كانون الثاني 1916، وانتصرت فيها الدولة العثمانية على الحلفاء من بريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى قواتٍ من أستراليا ونيوزيلندا. تقول المصادر العثمانية إنّ عدد الشهداء في تلك المعركة من العراق وسورية وفلسطين بلغ حوالي 1260 شهيداً. أمّا بالنسبة إلى السوريين، فتذكر المصادر أنّ حلب وحدها قدّمت 647 شهيداً.
فرصة حقيقية لإعادة تشكيل سورية على المثال الوطني العتيد الذي وضع الآباء المؤسّسون مداميكه الأولى
كانت النُّخبُ السورية التي ساهمت في بناء الدولة مؤهلةً بشكل متقدّمٍ جدّاً بمقاييس تلك الأيام، فوزير الدفاع السوري الشهيد يوسف العظمة وعلي رضا باشا الركابي، مثلاً، كانا من خرّيجي الأكاديمية العسكرية العثمانية، بينما كان كلٌّ من هاشم الأتاسي وفارس الخوري من خرّيجي المعهد الملكي العثماني في إسطنبول، وكان إبراهيم هنانو قد درس الحقوق في جامعة إسطنبول، بينما درسها سعد الله الجابري في جامعة السوربون. وقد كان أعضاء المؤتمر السوري الأول (حضر فيه ممثلون عن لبنان وفلسطين والأردن إضافة إلى سورية الحالية بالطبع)، الذي عُقد على مدار 13 شهراً (21 يونيو/ حزيران 1919 إلى 17 يوليو/ تموز 1920)، من أكثر الشخصيات تأهيلاً وتجربةً وخبرةً في المجالات السياسية والإدارية والعسكرية، فقد كانوا من رجالات الدولة العثمانية، وكان بعضهم ولاةً وبعضهم الآخر قادة فرق عسكرية، وغيرهم موظّفين كباراً في السلك المدني. لهذا نتجت من المؤتمر قراراتٌ وطنيةٌ سوريةٌ مهمّة؛ رفض اتفاقية سايكس بيكو وتقسم المنطقة؛ رفض وعد بلفور وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ المطالبة باستقلال سورية الكبرى بحدودها الطبيعية؛ وتأسيس نظام ملكي دستوري في دولة سورية بحدودها الطبيعية، يكون الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكاً عليها.
تشرح إليزابيت ف. تومبسون، في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب… المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي – الإسلامي فيه” (نقله إلى العربية محمد الأرناؤوط، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2023) الجهود العظيمة التي بذلها “الآباء المؤسّسون” لإنشاء الدولة السورية، وتبيّن كيف تآمر الإنكليز مع الفرنسيين لتحطيم هذا الحلم الكبير. لقد تميّزت تلك الفترة بتصالحيةٍ كبيرةٍ بين التيارات السورية المختلفة، فالليبراليون والقوميون والإسلاميون كانوا جميعاً يتصرّفون بحسٍّ رفيعٍ من المسؤولية الوطنية، لهذا كان دستور 1920 من أكثر الدساتير تقدّماً في تلك الفترة، ليس على مستوى المنطقة فقط، بل أيضاً على مستوى الدول المتقدّمة آنذاك. يُذكر أن الشيخ رشيد رضا، الذي ترأّس المؤتمر، لعب دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين التيارات الفكرية المختلفة عند أعضائه. هكذا لعب الإسلام الوسطي الشامي المُستنِد إلى إرثٍ عميقٍ من الفقه الحنفي الذي اعتمدته الإمبراطوريتان العبّاسية والعثمانية (تباعاً) دوراً كبيراً في لمّ شمل الوطن وتشكيل ملاطٍ جمعَ فسيفسائه المتنوّعة والمتعدّدة. تحدّث ذلك الدستور عن اللامركزية التي اعتبرها حلاً لاختلافات البنى الاجتماعية والاقتصادية في جهات الوطن السوري الأربع، وكان هذا جزءاً من تاريخ تطوّر فكرة اللامركزية التي طالب بها العرب ضمن إطار السلطنة العثمانية. لقد كان العرب آخر قومية طالبت بالاستقلال عن الإمبراطورية، فقد سبقهم البلغاريون واليونانيون والأرمن. حتى إنّ مطالبات العرب لم تأتِ إلّا نتيجة لتعنّت الأتراك في منحهم حقوقهم الثقافية ضمن إطار السلطنة، بل وأكثر من ذلك تنامي القومية التركية الطورانية المتعصّبة. لقد كان إعدام جمال باشا السفّاح زهرة شباب النهضة العربية في بيروت ودمشق أحد أهمّ العوامل التي دفعت العرب إلى الثورة على الحكم العثماني.
إنّ مؤتمراً للحوار الوطني بعد عقود من التباعد بين السوريين، يسلقُ في يومَين وتُكتب توصياتُه قبل انعقاده ولا تكون ملزمةً لأحد، هو النقيض للمؤتمر التأسيسي الذي امتدّ 13 شهراً قبل قرن.
في أيامنا هذه، نفتقد كثيراً هذه الروح التصالحية بين السوريين. ولا إجحاف في المقارنة مع الماضي، فسورية الحاضر خرجت للتوّ من ثورة شعبيّة تحوّلت مع التدخّلات الخارجية حرباً طاحنةً شاركت فيها أطراف دولية وإقليمية عديدة. كذلك ورث السوريون دولةً منهارةَ المؤسّسات مقسّمة الجغرافيا، ومجتمعاً فاقداً الهُويَّة الوطنية بعد عقود من الديكتاتورية والفساد والقمع والإجرام. يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ الفئة التي وصلت إلى الحكم لم تعترف ببقيّة القوى السياسية والمدنية، لا بل لم تعترف حتى اللحظة بالكوادر التكنوقراطية المؤهلة من خارج بنيتها الأيديولوجية المفتقرة لمثل هذه الكوادر أساساً. هكذا دخلت البلاد شيئاً فشيئاً فخّ التصحّر الإداري، ومستنقع التجريب البعيد عن مراكمة الخبرات، ومأزق البناء من الصفر على قاعدة هشّة مستندة إلى تجربة سطحية وفاشلة في مدينة صغيرة مثل إدلب. لم تكن تجربة إدارة هيئة تحرير الشام في إدلب ناجحةً تحت أيّ مقياس أو معيار من تلك المعتمدة في تصنيفات الأمم المتحدة. المولات والأسواق واستيراد السيارات والبضائع واحتكار الدورة الاقتصادية مالياً وجمركياً والسيطرة على موارد المياه والطاقة… وكل مصادر الإنتاج، من “الهيئة” ليست مؤشّرات تنمية حقيقية. وجود فئات مستفيدة بشكل هائل من الثروة إلى جانب الفئات الأكثر تهميشاً، التي عاشت في مخيّمات محرومة من أبسط أساسيات الحياة، مؤشّر واضح على فشل التجربة. التفاوت الهائل في الخدمات بين الريف الواسع المترامي الأطراف ومركز المدينة مؤشّر آخر على ذلك.
لقد أعطت السلطة الراهنة إشاراتٍ كثيرة على الاستئثار بالدولة، وهذا بحدّ ذاته أكبر خلل يمكن أن يصيب عملّية القيامة السورية والتشكّل الجديد للأمّة. إنّ مؤتمراً للحوار الوطني بعد عقود من التباعد بين السوريين، يسلقُ في يومَين وتُكتب توصياتُه قبل انعقاده ولا تكون ملزمةً لأحد ولا يُؤخذ بها في التطبيق العملي، هو النقيض للمؤتمر التأسيسي الذي امتدّ 13 شهراً قبل قرن. إنّ إعلاناً دستورياً تُختصر فيه الدولة بسلطاتها جميعاً في شخص رئيس الدولة، ويكرّس مركزية القرار، هو النقيض الحقيقي لدستور عام 1920 العظيم. فهل كانت الظروف أقلّ تعقيداً، وهل كانت البلاد في بحبوحة من العيش؟ لا أبداً، فسورية كانت تحت وصاية القوَّتَين العظميَين في العالم، فرنسا وإنكلترا، وكانت جيوشهما تحتل أجزاءً من البلاد وتهدّد باحتلال بقيتها، وكانت المجاعة تعصف بالمدن والقرى وتفتك بالبشر، والعالم كلّه كان في مخاض بناء نظامٍ عالمي جديدٍ في إثر الحرب العالمة الأولى التي نتج منها انهيار الإمبراطوريات الأربعة المذكورة أعلاه. ولم يكن ثمّة دولة يتمسّك بها الآباء المؤسّسون، فقط كان هؤلاء يتحلّون بالمسؤولية الوطنية ويحملون الإرادة القويّة ويؤمنون بالتشاركية وبحقوق المواطنة الفردية وبحقوق الجماعات المؤلفة للشعب السوري.
نحن الآن أمام فرصة حقيقية لإعادة تشكيل سورية على المثال الوطني العتيد الذي وضع الآباء المؤسّسون مداميكه الأولى، فإمّا أن نكون وتكون سورية التي حلمنا بها، وناضلنا من أجلها، ودفعنا أعمارَ أجيالٍ كاملة في سبيلها، أو لا نكون إلا حطاماً تتقاذفه أمواج الأطماع الداخلية والخارجية.