رأي

فتور إقليمي يزيد اشتعال الحرب في السودان

كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.

أسوأ ما يمكن أن يواجهه السودان أن يتعايش المجتمع الدولي والقوى الإقليمية مع الصراع الدائر على أراضيه والتكيف مع معطياته الراهنة والتأقلم مع ما يحدث من مستجدات الفترة المقبلة.

عقب اندلاع الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، ظهر ما يشبه السباق الإقليمي لوضع حد لها، من جانب دول عدة، أبرزها مصر وإثيوبيا وكينيا وجنوب السودان، ومنظمات إقليمية في مقدمتها الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد). بدت كل جهة تحاول أن تحجز مكانًا لها كوسيط أوفر حظًا، قادر على وضع نهاية سريعة.

مضى نحو 18 شهرًا على الصراع في السودان، ولم تستطع هذه الدول وضع مبادرة ورعايتها حتى تصل إلى غايتها. كما أن الوساطة السعودية – الأميركية المعروفة بمنبر جدة تعثرت، وربما تحطمت أوصالها، بعد أن أخفقت الولايات المتحدة في إقناع الجيش السوداني بالتجاوب مع اجتماعات عقدت في جنيف قالت إنها مكملة لجدة، وذلك على مدار عشرة أيام في أغسطس الماضي.

والآن وصل طرفا الصراع (الجيش والدعم السريع) إلى ضرورة تسريع وتيرة الحسم العسكري وتوسيع نطاقه، كوسيلة رئيسية لوضع نهاية للحرب المستعرة بينهما.

أصبح الفتور الظاهر في مواقف غالبية القوى الإقليمية من الحرب في السودان مؤشرًا على انخراط بعضها في أزمات أخرى داخلية أو خارجية، ويأسًا من إمكانية تحقيق اختراق يعيد الطرفين إلى المفاوضات. ما جعل الجيش يتمسك بخطاب تصعيدي، معتقدًا أن الحصول على أسلحة من مصادر جديدة قد يمنحه قدرة أعلى لمواصلة القتال. الأمر نفسه بالنسبة لقوات الدعم السريع التي تسيطر على نحو 70 في المئة من مساحة السودان، بينها مناطق واسعة في الخرطوم، وكل ولايات دارفور، عدا مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، وترى أنها قاب قوسين أو أدنى من وضع يديها على المزيد من المناطق في جنوب شرق البلاد.

ما يضاعف من السخونة في ميادين عدة أن القوى التي لديها قدرة على ممارسة ضغوط كبيرة على الطرفين غير قادرة أو غير راغبة في القيام بهذا الدور. وهو ما فهمه الطرفان، وفسراه على أن المجتمع الدولي يميل إلى حسم الموقف عسكريًا لصالح أحدهما، لأن عملية الإنهاك المشترك كدافع للمفاوضات لم تعد مجدية. قدرة المنظمات الدولية والإقليمية محدودة في مسألة الضغط، في ظل توازنات متباينة تلعب دورًا حيويًا في رسم خارطة التوجهات حيال الحرب.

كما أن كل طرف بات يحصل على مصادر أسلحة متجددة وبطرق متعددة، وهناك جهات على استعداد لدعمهما معًا، لعدم خسارة أحدهما، انطلاقًا من أن الصراع قد يستمر سنوات طويلة، والقدرة على الحسم النهائي مشكوك فيها. حيث يملك كل جانب من الأوراق ما يمكنه من إغراء أو استقطاب قوى إلى جانبه، ولذلك لم تتغير الكثير من انحيازات الدول منذ بداية الحرب، ويتم التمسك بحيلة الحياد. لدى القوى التي تميل تصرفاتها إلى أحدهما وسائل لضبط الاندفاع في هذا المجال، والتشبث بفضيلة الحياد، في ظل تداخل عدد كبير من الأوراق، وهي أداة تكشف إلى أي مدى لم تتغير قواعد اللعبة منذ اندلاع الحرب، وأن هناك رغبة في التعايش معها فترة طويلة.

من خبرة أهل السودان أنفسهم قبل خبرة الآخرين، يقود هذا الأسلوب إلى المزيد من الدمار، وتهجير مئات الآلاف من المواطنين بحثًا عن ملاذات آمنة لهم، ما يمثل ضغطًا إنسانيًا واجتماعيًا وماديًا على الكثير من دول الجوار. كان الأحرى بها وضع مجموعة من الأفكار لمبادرة توافقية جماعية يمكن تطبيقها، بدلًا من المنافسات التي رأينا ملامح منها خلال الأشهر الماضية، وعطل بعضها بعضًا. فلا المبادرة المصرية حافظت على زخمها، أو بلورت إثيوبيا مقاربة منتجة، وانشغلت دول هيئة “إيغاد” بأزمة تصفية حسابات أرادتها الحكومة السودانية معها، ما أدى إلى عقم كبير في تحريك أي من المنابر السابقة. قضت توجهات الجيش على منبر جدة تقريبًا بسبب الشروط والعراقيل التي وضعتها قيادته لمنع تطويره.

مع كل التحركات التي تقوم بها الولايات المتحدة عبر مبعوثها الخاص للسودان توم بيريلو، إلا أنها لم تبذل جهدًا كافيًا لإجبار الطرفين على العودة إلى طاولة المفاوضات. تكتفي بحملة دبلوماسية أشبه بحملات العلاقات العامة لتظهر كأنها معنية بتفكيك الأزمة في السودان، ضمن رغبة الإدارة الأميركية لتحقيق نصر سياسي في أي من الأزمات الإقليمية المحتدمة تدعم به المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس، من دون استعداد واضح للقيام بخطوات عملية لوقف الصراع، ومن بينها منع تدفق أسلحة أميركية وصلت إلى أحد طرفي الصراع عن طريق طرف ثالث. اكتفت بإعلان قيامها بالتحقيق في الأمر، وهو ما فهم منه الطرفان المتصارعان أن قبضة واشنطن ليست قوية أو غير حاسمة بما يجبرهما على التفكير في وقف الحرب.

أسوأ ما يمكن أن يواجهه السودان أن يتعايش المجتمع الدولي والقوى الإقليمية مع الصراع الدائر على أراضيه، والتكيف مع معطياته الراهنة، والتأقلم مع ما يحدث من مستجدات الفترة المقبلة، في ظل معالم تشير إلى عدم استبعاد تشكيل حكومة في بورتسودان تحت قيادة الجيش، وأخرى في الخرطوم تحت قيادة الدعم السريع. يتكرر سيناريو ظهر منذ عشر سنوات ولم يكن كثيرون يتخيلون استمراره كل هذه الفترة، وحتى الآن لا أحد يعلم متى يمكن أن تنتهي هذه المفاصلة، والتي سوف تصبح في السودان أشد وطأة، بحكم تجذر المناطقية، والخلافات على الهوية، وصعوبة الفصل بين الأقاليم التي يسيطر عليها كل طرف، وما تمثله من أهمية إستراتيجية.

يستغل كل طرف الحرب ومظاهر العجز والتقاعس والتراخي والإهمال الحاصل للأزمة في السودان من أجل محاولة تغيير الواقع لصالحه. لم تعد هناك رهانات كبيرة على وساطة جادة تضع حدًا للأزمة أو قدرة حقيقية على التسوية السياسية المرضية، لأن الجانبين حوّلا الحرب إلى معادلة صفرية، مكاسب أحدهما خسارة للآخر. أي مبادرة تريد وقف الصراع لا بد أن تجبرهما على نبذ هذه المعادلة أولًا، وإبداء استعداد واضح للتعايش، بما يتماشى مع طبائع السودانيين. من عاداتهم أنهم يتقاتلون في الميدان ويتقابلون في المفاوضات بالأحضان، وهي صفة افتقدها الصراع بين الجيش والدعم السريع، كدليل على المأزق أو الشرخ الذي أحدثته هذه الحرب.

من المهم عدم استسلام القوى الإقليمية للفتور الحالي والبحث عن منطلقات جديدة لتضييق الهوة، لأن غياب العملية السياسية أو تغييبها بدأ يمنح الحرب فرصة للمزيد من الاشتعال والدوران والاستمرار، باعتبارها الخيار الوحيد المتاح أمام طرفيها. ما يعني أن هناك أهمية لأي حراك إقليمي يوفر أملًا للتسوية، بدلًا من أن ينصب الرهان على الحرب فقط، التي يمكن أن يتسع نطاقها إلى ما هو خارج حدود السودان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى