غرام القيادات المصرية بالنموذج الصيني
كتب عمر سمير, في “العربي الجديد”:
يسر قيادات مصر وبعض من مفكريها ونخبها، وكثيرين من أكاديمييها من المقرّبين من النظام تحديداً، أن يشيدوا بالنموذج الصيني في الحكم، وأحيانا التنمية، لكن ما يقدمونه من رؤية بشأن الصين شديدة القصور والسطحية للأسف، وترتبط هذه الرؤية بالأسطورة التي تقول إن الصين سيطرت بنجاح على أزمة كورونا، سواء عبر مئات آلاف من الكاميرات أو القدرة الهائلة على التحكم بحركة المواطنين، ومع عدم إنكار بعض من المغرمين بنموذجها التنموي الذي يختزلونه في بعض النتائج الحالية، من دون البحث في تطوراته وجذوره وعثراته، فإنهم قد يجيدون تدليس استخدامه لفض الاشتباك بين الديمقراطية والتنمية.
تطالعنا الصحف ومواقع التواصل بعمليات محاسبة واسعة للجنرالات في الصين، في ظل قضايا فساد، فوفقا لصحيفة فاينانشيال تايمز، فتحت الصين، أخيراً، تحقيقا مع وزير الدفاع الحالي دونغ جون على خلفية اتهامات بالفساد ضمن حملة متصلة على الفساد في الجيش الصيني بدأت في نهاية العام الماضي، قادت لإطاحة تسع جنرالات من قياداته.
وبينما يسعى الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ إلى تحويل الدولة الصينية إلى دولة مؤسّسات مع إخضاعها لإدارة مركزية تحت قيادته، بخلاف النمط التاريخي للحزب الشيوعي الصيني الذي كان يمتاز بتعدّد مراكز القوة والتوازنات والتداخل بين الحزب والدولة، فإننا إزاء عملية تفكيك مؤسّسية للدولة المصرية عبر قبلنتها بإيجاد اتحادات قبلية وإحداث تزاوج بين السلطة والثروة والقبيلة خارج نطاق التحالفات التقليدية ثم إيجاد أحزاب أشبه بالقبائل ناجمة عن هذا التزاوج للمال السياسي الفاسد مع القوة الخارجة عن نطاق القانون والدولة.
لا ينقصنا عند الحديث عن الفساد في مصر إلا أن تخرج القيادات الفاسدة لتقول لنا “البلاد لنا فافعلوا ما شئتم”
وفي هذا السياق، تأتي عملية إصلاح الجيش الصيني ضمن تلك المأسسة المستمرّة على الأقل خلال السنوات العشر الماضية، ومن 2015 وحتى 2020 جرت تصفية ونقل أصول أكثر من مائة ألف شركة كانت تابعة كليا أو جزئيا للجيش الصيني لتتبقى فقط حوالي ستة آلاف شركة ومؤسسة وصفتها الحكومة الصينية بأنها مؤسّسات وشركات حسّاسة، أي أنها مرتبطة بالصناعات العسكرية في الصين، أو تقدم خدماتها فقط للجيش الصيني الكبير جدّا، والذي يواجه صراعات محتملة على المحاور كافة، سواء في بحر الصين الجنوبي أو مع بعض دول جواره. كما جرى إنشاء اللجنة المركزية للتنمية العسكرية والمدنية المتكاملة في العام 2017 ويترأسها مدني، هو نائب رئيس الوزراء تشانغ قاو لي.
بينما الحديث عن المؤسسة العسكرية في مصر وشركاتها وتوسعها وممتلكاتها وحصصها في الاقتصاد أو حتى دورها في إعاقة الإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي التي ينخرط فيها الرئيس تعد من الخطوط الحمراء التي لا يستطيع الرئيس نفسه الحديث فيها.
لا ينقصنا عند الحديث عن الفساد في مصر إلا أن تخرج القيادات الفاسدة لتقول لنا “البلاد لنا فافعلوا ما شئتم”، وهي المؤسّسات التي منذ سبعة عقود تقريباً لا يدخل أحد أي كلية عسكرية من دون واسطة أو رشوة كبيرة أو الاثنتين معا، وهذا منشأ الفساد حتى لو لم يعن أن الجميع فاسدون، فالقاعدة في الدخول والخروج والترقي فاسدة.
تخلت الدولة المصرية عن دعم اللقاحات وخفضت دعم الزراعة لتفقد قرابة نصف ثروتها الحيوانية في أقل من عامين
ربما لا يعرف هؤلاء، الذين يتبارون بأن مصر مركز للعمالة الرخيصة بلا حقوق باعتبار ذلك جزءاً من الدعاية للاستثمار الأجنبي، أنه حتى الصين لم تقبل أن تكون مجرّد مركز للعمالة الرخيصة في تقسيم العمل الدولي وأن ما أنجزته في رفع الأجور والرواتب وحصتها من الناتج وصلت لمستويات جيدة جدا في فترات وجيزة، وأن الصين رغم سياسات الانفتاح كانت لديها قيودٌ مالية شديدة جدا على الاستثمار الأجنبي، ولم تسمح للأموال الساخنة في اقتحام أسواقها، بل وحتى البورصة عملت فيها لفترة طويلة قسمين “أ” للمواطنين و”ب” للأجانب بقيود شديدة على التخارج في فترات معينة من تاريخها بالتسعينيات والعقد الأول من الألفية، وأن نموذج التنمية في الصين لم يعتمد على الديون الخارجية بل كانت هناك خطط لتحويل الصين إلى أكبر دائن في العالم وأكبر شريك تجاري لغالبية دول العالم. لم يطلعوا على أن الصين رفعت أكثر من نصف سكانها من تحت خطوط الفقر وصعدتهم لوضع دولة ذات دخل متوسط، لا يعجبهم أن الصين تخلت عن سياسة تجميع الأراضي والضرائب المرتفعة على الفلاحين والأنشطة في الريف، ما أحدث ثورة تصنيع زراعي هائلة في المناطق الداخلية من الصين، لا يعجبهم أن الصين استجابت عدة مرات لاحتجاجات العمّال والفلاحين بالتفاهم بل وأعدمت مئات المليارات من الديون لمواطنيها.
المعضلة أنهم معجبون بأسوأ ما في الصين، وهو ديكتاتوريتها، وليس لديهم استعدادٌ لتقبل أنه، حتى الحزب الشيوعي الصيني، على ديكتاتوريته، فيه جبهات وانقسام في الرأي بين محافظين وإصلاحيين، وجميعهم منتخبون على المستوى المحلي، فالصين الديكتاتورية أيضا تعتمد نظام حكم لامركزي يتيح للبلديات والحكومات المحلية اتخاذ آلاف القرارات اليومية من دون الرجوع للسلطة المركزية بيد الرجل الواحد. بل صدق أو لا تصدق عزيزي المنبهر بالديكتاتورية أن الصين لديها حزب حاكم ويجري انتخابات لاختيار قياداته المحلية وينتخب رئيسا للجمهورية، حتى وإن تمت بآليات غير ديمقراطية حقيقية، لكن مصر وإن شهدت استثناء ديمقراطيا لعامين بعد الثورة فلم تشهد انتخابات محلية منذ العام 2008 على سبيل المثال، وتحكم عن طريق الجنرالات، وتتركز السلطات بقوة غاشمة في يدي الرئيس ومع ذلك فهو غير راض لا عن الشعب ولا الدستور ولا الأحزاب والقيادات التي اختارها ويعيد ترتيبها على عينه.
لم تترك الصين قطاعها الزراعي ولا صناعاتها الاستراتيجية للأسواق الدولية، رغم ما يثار حول سياسات الانفتاح
الصين تحافظ على الشركات والبنوك المملوكة للدولة، بل وتحول بعضها لتدخل ضمن قائمة لأكبر البنوك العالمية. لم تترك الصين قطاعها الزراعي ولا صناعاتها الاستراتيجية للأسواق الدولية، رغم ما يثار حول سياسات الانفتاح التي اتبعت منذ نهاية السبعينيات هناك، بل تنافس الشركات الحكومية والبنوك الصينية العاملة في الخارج والتي استفادت من هذا الانفتاح مع كبريات الشركات الدولية حول صناعات الأسمدة والبذور والتقنيات الزراعية للاستحواذ عليها، فيما تطرح سياسات الانفتاح المصرية كل ما يمكن للبيع أمام المستثمرين الأجانب، فقط بدعوى دعم الاستقرار المالي للدولة المصرية من دون إدراك كارثية وضع التبعية والارتهان للخارج في صناعات استراتيجية، وفي ضوء عدم وجود ميزة تنافسية فعلية لمصر في قطاع ما، بحيث يجعل العالم معتمداً عليها فيه بل فقط الاعتماد على بعض المصادر الريعية شديدة التأثر بالتقلبات الإقليمية والدولية.
وبينما تخلت الدولة المصرية عن دعم اللقاحات وخفضت دعم الزراعة لتفقد قرابة نصف ثروتها الحيوانية في أقل من عامين منذ الحرب الروسية الأوكرانية، تطبق الحكومة الصينية استراتيجية أمن غذائي وطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب وصل إلى قرابة 95%، بفضل الدعم التكنولوجي والإصلاحات الهيكلية والابتكار المؤسّساتي في الزراعة وزيادة الإنتاجية، وتحولت الصين إلى بلد مصدر للحبوب، وتضاعفت أعداد الثروة الحيوانية في الصين بأكثر من ثلاثة أضعاف بين عامي 1980 و2017 وحققت تراجعا لا مثيل له في أعداد الفقراء وفي محاربة الفقر في الريف، بينما تتفاقم أوضاع الفقراء في مصر.