رأي

عن سقطات حكومة الكفاءات في المغرب

كتب محمد طيفوري, في العربي الجديد:

دشّنت الحكومة المغربية صيفاً ساخناً تجاوزت سخونته حرارة الموسم التي أدخلت مناطق عدة في البلاد في دوّامة أزمة المياه، فحصاد الشهر الماضي (يوليو/ تموز) كان عدّة فضائح تفجَّرت في وجه حكومة “الكفاءات”، إلى درجة أنها تطبَّعت مع الأمر في الأشهر الماضية، ما جعل أعضاءها سيراً على نهج رئيسهم، الملياردير عزيز أخنوش، غير مبالين بأيّ توضيح للرأي العام حتى تحاصرهم أقلية من الإعلاميين (لا تزال تسبح بعيداً من فلك الحكومة) والنشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي من كلّ جانب.
كانت البداية مع أخنوش، الذي كلّفه الخروج عن النصّ المكتوب في جلسة المساءلة الشهرية في البرلمان (حين حاول الارتجال في كلمة التعقيب، وحتى المزايدة على من يتهمونه بتضارب المصالح) الشيء الكثير، إذ تلفّظ بعبارات أثارت جدلاً كبيراً في الوسطين السياسي والإعلامي. حتى إن أصواتاً اعتبرت ما قاله تهديداً مباشراً للدولة، حين ربط ثقة المستثمرين بحضوره في عالم الاستثمار، وكأنه يوحي أن الدولة ستتوقّف في غيابه، فأي صورةٍ يُسوِّقها رئيس الحكومة عن مناخ الاستثمار في المغرب؟
يبدو أن عزيز أخنوش ما زال يخلط، سهواً أو عن قصد، بين منصب رئيس حكومة ومدير شركة، فكلامٌ من قبيل “الاستثمار ليس عيباً، وينبغي أن تكون سيّد الرجال للقيام به”، الذي جاء على لسانه في معرض تبرئة ذمّته من تهم تضارب المصالح التي تُلاحقه، منذ أيامه الأولى في رئاسة الحكومة (راجع مقال الكاتب “المغرب… عزيز أخنوش ومزج السياسة بالبزنس”، “العربي الجديد”، 2025//1/11)، غير مقبول أن يصدُر عن ممثّل السلطة التنفيذية في حضرة ممثّلي الأمّة داخل قبّة البرلمان.

كان حصاد الشهر الماضي (يوليو/تموز) فضائح تفجَّرت في وجه حكومة الكفاءات

توالت سقطات قيادة حزب التجمّع الوطني للأحرار بعد انتقال رئيس الحكومة إلى خطّة هجومية في السنة الأخيرة من ولايته الحكومية، فالأعين شاخصة نحو الاستحقاق الانتخابي لعام 2026، فاختيار منصّة البرلمان للهجوم على رئيس جماعة سلك كلّ القنوات الرسمية لتحقيق مطالب الساكنة، قبل أن يقرّر الخروج معهم في احتجاجات أيت بوكماز (قرية نواحي مدينة بني ملال في جبال الأطلس) للمطالبة بحقوق بسيطة، من قبيل شقّ الطريق وتوفير طبيب قارّ، وإتاحة شبكة الهاتف والإنترنت لقرى تشكّل السياحة الجبلية نشاطها الرئيس… هجوم اعتبره كثيرون تهديداً مباشراً لمنتخب ترابي، وممثّل لساكنة أوصل مطالبهم، بعدما فشل صندوق التنمية القروية، الذي أشرف عليه أخنوش سنواتٍ حين كان وزيراً للفلاحة (وزار المنطقة بالمناسبة) في تحقيق الحدّ الأدنى منها.
يبدو أن قادة “التجمّع الوطني للأحرار” يتوهّمون أن البلاد لا يمكن أن تسير إلا تحت وصايتهم، فبعد سقطات زعيم الحزب الملياردير عزيز أخنوش، جاءت سقطة أخرى لعضو المكتب السياسي، الوزير السابق محمّد أوجار، في لقاء جهوي لشبيبة الحزب في الناظور (شمال)، حين قال بلغةٍ تتنافى مع روح الديمقراطية والتداول على السلطة، وتحمل، في المقابل، كثيراً من الالتباس والتأويل: “رسالتنا إلى المغاربة أن توقّف الإصلاحات الحكومية الحالية كارثة وطنية”، مضيفاً: “لذلك علينا أن نظفر بالانتخابات المقبلة، ليس من أجل كسب المقاعد، بل لمواصلة الإصلاحات لفائدة الوطن والمواطنين”. هنا يثار تساؤل مشروع مفاده متى أصبح مستقبل المملكة مرهوناً بمصير حزب سياسي واحد؟ ثمّ ألا يشكّل كلام قيادات حزب الأحرار انزلاقاً خطيراً نحو الهيمنة والوصاية؟
وزير آخر في حكومة الكفاءات، لكن من حزب الأصالة والمعاصرة هذه المرّة، سقط سقطةً مدوّيةً، حين سرَّب حساب مجهول باسم “جبروت” في منصّات التواصل الاجتماعي تفاصيل عملية تلاعب فاضحة، بطلها وزير العدل عبد اللطيف وهبي، الذي اقتنى عقاراً (فيلا) في أحد أرقى أحياء الرباط عام 2020، بمبلغ 11 مليون درهم (1.21 مليون دولار)، بقرض بنكي سدّده خلال أربع سنوات فقط (!)، ليفوّت بعد ذلك، وخلال أقلّ من شهر، ملكيّته إلى زوجته في شكل عقد هبة، مصرّحاً في وثائق التسجيل الرسمية بثمن أقلّ من عُشر الثمن الحقيقي للعقار، الذي حدّد بمليون درهم فقط (110 آلاف دولار). بعيداً من مسرحية ليّ أعناق النصوص القانونية التي تولاها “خبراء” وإعلاميون مهمّتهم الدفاع عن الحكومة بعد فشل الناطق الرسمي باسمها في ذلك، حتى يبرّروا للمغاربة مشروعية ما قام به الوزير والمحامي سابقاً، الذي لم يتردّد من جانبه في إعلان (وببرودة دم قاتلة) أنه “إذا كانت هناك أخطاء في الأرقام، فبالإمكان تصحيحها”. نحن أمام عملية تهرّب ضريبي لا تخطئها العين، أو لنقل “تهرب ضريبي ناعم”، بربطة عنق، يحمل توقيع الوزير نفسه. فما حدث يتنافى ومقتضيات الفصلين 39 و40 من الدستور المغربي، ويتنافى أيضاً مع مسطرة التقييم الضريبي التي تترصّد أيَّ مواطن بسبب خطأ بسيط في التصريح، بخلاف الوزراء الذين يُتسامح معهم في مبالغ طائلة.

“متى أصبح مستقبل المملكة مرهوناً بمصير حزب سياسي واحد؟

صحيحٌ أن النقاش في واقعة وهبي قانوني وأخلاقي أيضاً، ولكن من مدخل آخر غير ما روًّجه المدافعون عن الوزير، فالمشكلة ليست في الضرائب على الأرباح، بل في السعر المصرّح به الذي يُعدُّ مخالفةً صريحةً لمقتضيات مدوّنة الحقوق العينية، ليُكيَّف تهرّباً ضريبياً أو غشاً في التصريح، فمصاريف التسجيل في عقد الهبة بين الأقارب حدّدها القانون في نسبة 1.5% من قيمة العقار، النسبة نفسها محدّدة لواجبات التحفيظ، ما يعني أن الوزير مطالب بدفع 3% من قيمة العقار مصاريف لنقل الملكية، وشتّان بين مستحقّات الدولة من هاتَين النسبتَين: النسبة من الثمن الحقيقي للعقار (330 ألف درهم)، والنسبة من الثمن المُصرَّح به (30 ألف درهم) من الوزير.
… فضيحة تلو أخرى يتأكّد المغاربة أن حكومة الكفاءات تعمل على تنزيل برنامجَين بالتوازي، أحدهما برنامج “الدولة الاجتماعية” الذي يُسوّق في الإعلام الرسمي، وحتى الخاص، بعدما صار ملحقاً بالحكومة، فهي من دفعت أجور 2309 مستخدمين في 124 مقاولة إعلامية، بتكلفة إجمالية بلغت 264 مليون درهم برسم عام 2024، التي لم تولد بعد بدعوى ثقل الفاتورة الاجتماعية كما يبرّر أشباه الاقتصاديين. وبرنامج آخر في الخفاء باسم “تحصين المصالح”، إذ تتماهى الثروة والسلطة في هذه الحكومة بلا حدود، بصيغ قانونية أكثر أناقةً حتى استحقّت لقب “كارتل حكومي”. فأولى إنجازاتها، أياماً قليلة بعد التنصيب، كانت سحب مشروع قانون رقم 10.16 المتعلّق بتجريم الإثراء غير المشروع من البرلمان (مجلس النواب) في نوفمبر/ كانون الثاني 2021. ثمّ أي معنىً آخر لقول عبد اللطيف وهبي، في لقاء إعلامي دفاعاً عن فضيحته، حين سئل عن احتمال لجوء المواطنين إلى مثل هذه الأساليب، فردّ بجفاء “إذا كان مجرماً وقادْ يفك راسو الله يعاونوا” (إذا استطاع الفكاك من الجريمة فلا ضير)؟
بهذه الوقائع، التي تفضح عمق المأزقين، الأخلاقي والسياسي، للقيادات الحزبية في المغرب، وتكشف أساليب تحويل السلطة أداةً لحماية المصالح الخاصّة من دون الوقوع في المحاسبة القانونية، وتعمّق الشعور العام بأن الدولة ليست على مسافة واحدة من الجميع، وتُقوِّض ما بقي من ثقة للمواطن البسيط في الدولة ومؤسّساتها… بهذه الوقائع تسير بنا حكومة رجال الأعمال أو “حكومة الكفاءات” وتسوّق لنفسها نحو انتخابات 2026!

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى