على هامش قضية أكرم أوغلو

كتب مدى الفاتح, في “العربي الجديد” :
لن يكون غرض هذا المقال مناقشة الحكم الصادر بحقّ رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بتأكيد صحة ما يواجه من اتهامات أو نفيها، لأن مثل هذه التعليقات تكون في الغالب غير موضوعية. عوضاً عن ذلك، من المهم التذكير ببعض الحقائق، التي يجب وضعها في الاعتبار من أجل فهم أعمق لسياق الحدث.
ينتمي أكرم إمام أوغلو إلى حزب الشعب الجمهوري، الذي يفتخر بارتباطه بمؤسّس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، والذي يعدّ اليوم أحد أهم الأحزاب السياسية وأكبرها، حيث يأتي في المرتبة الثانية بعد حزب العدالة والتنمية (الحاكم). كثيراً ما يوصف “الشعب الجمهوري” في الإعلام العربي بأنه حزبُ علماني، وهي تسمية غير دقيقة، حيث تتنافس جميع الأحزاب التركية تحت مظلّة العلمانية، بما فيها الحزب الحاكم. الفارق الوحيد أن “العدالة والتنمية” يبدو أقرب إلى المحافظة، في حين يبقى “الشعب الجمهوري” محتفظاً بالعلمانية الليبرالية. هناك، وفقاً لهذا، انحيازٌ لا تخطئه العين لحزب الشعب، سواء بين الغربيين أو بين فئات ليبرالية في العالم العربي، وهو ما ظهر في تعاطف أولئك الكبير مع إمام أوغلو منذ إعلان توقيفه، وحتى قبل أن تتضح معالم قضيته.
للتذكير، لم يكن الإعلام الغربي يخفي دعمه مرشّح “الشعب …” إبّان الانتخابات الرئاسية الماضية. إذ كانت صحف ودوريات كبرى تتحدّث بتفصيل عن الفوائد، التي يمكن أن تحصل عليها تركيا، إذا ما فاز هذا الحزب الذي يمتلك علاقات جيدة بأوروبا. كان رئيس الحزب كمال كليجدار يمثّل رهان الغربيين، الذين رأوا أن فرصه للفوز كانت كبيرة. فمن ناحية كان الوضع الاقتصادي ووعود الأخير بتحسين ظروف الحياة ممّا يساهم في تعزيز هذا الرهان. من ناحية أخرى، كان المراقبون الغربيون يرون أن اتحاد مجموعةٍ من الأحزاب آنذاك تحت راية موحّدة باسم “الطاولة السداسية” يمكنه أن يشكّل فارقاً. ما حدث أن الخلافات بين الأحزاب، والخلافات الداخلية بين تيّارات مختلفة داخل حزب كليجدار نفسه، ساهمت في خسارة الرجل للانتخابات.
أوضح أردوغان أن الوثائق والأدلة التي تم الاعتماد عليها في قضية إمام أوغلو، أتت من داخل حزب
هذا عاملٌ مهم يجب وضعه في الاعتبار، لأنه يوضح لماذا تتعامل أطرافٌ كثيرة سياسية وإعلامية بحساسية فائقة مع الحدث التركي، خاصّة ما يتعلق بالتنافس الانتخابي وبحزب المعارضة الأكثر أهمية. العامل الآخر هو الاقتصادي. الليرة التركية بدأت تفقد خلال الأعوام الماضية قيمتها بشكلٍ متصاعد، فيما يعاني الشباب من نسبة بطالة مرتفعة، وفرص العمل (على قلّتها) لا تحقّق لهم رواتبها طموحاتهم كلّها، فيما تجد الطبقة الوسطى نفسها في وضعٍ صعبٍ بسبب التضخّم. جو الإحباط السائد، خاصّةً بين الشباب القلقين على مستقبلهم، والذين يؤمن كثيرون منهم بأن السبب في هذا التراجع الاقتصادي هو سياسات الحزب الحاكم، وفي مقدمها ما يتعلّق بموضوع استقبال اللاجئين… نقول، ساهم جو الإحباط في ازدياد أعداد أنصار حزب الشعب.
الحقيقة، وعلى الرغم من بقاء حزب العدالة والتنمية المحافظ أكثر من 20 عاماً في السلطة، إلا أن الحسّ الليبرالي وتراث العلمانية المتطرّفة، التي ولدت مع الجمهورية، لا يزالان حاضريْن بقوة، إلى درجة اعتراض رئيس شركة كبيرة على ما نُشر في البريد الداخلي للشركة من تهنئة بمناسبة بداية شهر رمضان، وإلى درجة تحفّظ كثيرين على انتشار الحجاب أو على مجرّد تلاوة آيات من القرآن في خطاب رسمي.
إلى جانب هذا الجمهور الكبير، المؤمن بضرورة انتشال الدولة التركية من بين يدي المحافظين الرجعيين، قبل أن تبتعد أكثر عن روح العلمانية، يندفع جمهور آخر إلى تأييد الحزب المعارض طمعاً في التغيير. وهذا لا يعني أن تلك الشرائح تقتنع بالضرورة بأن الحزب سوف يقود البلاد إلى ما هو أفضل، بقدر ما أنه يشبه الحالة التي عشناها إبّان الانتفاضات العربية، وكان عنوانها “التجريب”، على اعتبار أن المستقبل المجهول، ربما كان يحمل بعض الأمل.
هذه الظروف كلّها، والانفعالات، جعلت من السهل تصوير حادثة إمام أوغلو كأنّها مجرّد محاولة للتخلّص من منافس قوي عبر تلفيق تهم له، وإبعاده من السباق الرئاسي القادم. في الوقت نفسه، كان يزدهر تحليل مفاده بأن الرئيس أردوغان يرغب في تكريس الاستبداد وإيجاد بلد خالٍ من المعارضة الجادّة، على غرار المثال الروسي.
فضّلت دول الشمال الاكتفاء بمراقبة الوضع التركي، أو التعليق بشكل خافت لا يحمل نبرة التهديد أو الضغط
ملاحظة أخرى بارزة في هذه القضية، ضعف التدخّل الخارجي، فقد اعتدنا في السنوات الماضية على صدور بيانات وتهديدات، خاصّة من الأوروبيين، حينما يتعلّق الأمر بما يعتبرونه اعتقالاً غير مشروع أو مساساً بالديمقراطية، لكن دول الشمال فضّلت، في هذه المرّة، الاكتفاء بالمراقبة أو التعليق بشكل خافت لا يحمل نبرة التهديد أو الضغط. يعود ذلك، في المقام الأول، إلى التغيرات التي تشهدها الساحة الدولية، فتخلّي الولايات المتحدة المُعلَن أمنياً وعسكرياً عن حلفائها الأوروبيين جعل أولئك مرغمين على استعادة ثقة الأتراك بهم، بحثاً عن تحالف إقليمي قادر على ضمان الأمن الجماعي الأوروبي.
بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، ما لبثت الخلافات الداخلية، التي أسهمت في إبعاد الحزب من المنافسة الانتخابية، أن أطلّت برأسها اليوم، فأوضح أردوغان أن الوثائق والأدلة التي تم الاعتماد عليها في قضية إمام أوغلو، أتت من داخل حزبه، وهو ما أكّده أوزغور أوزل، الذي اعترف قائلاً، إن بعض “المجانين” ممّن لا يليق بهم أن يكونوا في حزب أتاتورك قد قدموا ما أدان إمام أوغلو. استبعاد أكرم أوغلو من التنافس الانتخابي سوف يكون مفيداً لحزب العدالة والتنمية بالتأكيد، لكنّ السؤال هو: هل كان الحزب الحاكم، الذي سمح بممارسة ديمقراطية شفّافة خسر بموجبها بلديات مهمّة في مقدمتها إسطنبول وأنقرة، وفاز فيها بفارق ضئيل على منافسه يحتاج هذا لكسب الانتخابات؟