رأي

«طالبان» بين الشرعية والسيادة: هل يعود الأميركيون إلى «باغرام»؟

يكشف تمسّك «طالبان» بقاعدة «باغرام» صراع السيادة مع واشنطن، بين رفض عودة الاحتلال الأميركي وتوازنات النفوذ مع الصين وروسيا.

كتبت شکریة أکبري, في الاخبار:

بلغ التصعيد الديبلوماسي بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان» في أفغانستان، ذروته، في الأيام الماضية، مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بنبرة تهديدية، أن «أحداثاً سيّئة» ستقع، إنْ لم تسلّم «طالبان» قاعدة «باغرام» الجوية إلى واشنطن، بعدما أضحت في عُهدة الجماعة الحاكمة، منذ الانسحاب الأميركي في آب 2021. وتقع «باغرام» على بُعد 40 كيلومتراً إلى شمال العاصمة الأفغانية كابول، وقد شُيّدت على يد الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي، وتحوّلت، في حرب الثمانينيات، إلى موقع رئيس لعمليات الجيش الأحمر؛ وبعد هجمات الـ11 من أيلول، حوّلتها الولايات المتحدة و«الناتو» إلى أكبر قاعدة لهما في أفغانستان.

وشكّلت القاعدة الجوية التي تضمّ مدرجاً بطول 3600 متر، والمعدّة لاستقبال الطائرات الثقيلة، قلب القيادة والاستخبارات واللوجستيات والعمليات الجوية ضدّ «طالبان» وتنظيم «القاعدة»، فيما عزّز موقعها الجغرافي، كونها تقع إلى جوار كلٍّ من باكستان وإيران وطاجيكستان والصين، من أهميتها الجيوسياسية. وفي أعقاب توقيع «اتفاق الدوحة»، تسلَّمت القوات الأفغانية مهمّة السيطرة على «باغرام»، إلّا أن سقوط حكومة أشرف غني، وتالياً سيطرة «طالبان» على الحُكم، أعاداها إلى سلطة هذه الأخيرة؛ علماً أن القاعدة تستخدم راهناً لمهمات تدريب قوات الحركة، فيما برز بُعدها الاقتصادي في ضوء الاستثمارات الصينية في مجال التعدين في أفغانستان.

ولعلّ أحد الأهداف الرئيسية لترامب، يتمثّل في مراقبة مجموعات، من مثل «داعش خراسان» و«القاعدة»، في ضوء تصاعُد هجمات هذه الجماعات وحَراكها في أفغانستان، والذي تخشى الولايات المتحدة أن يمتدّ إلى أراضيها. ومن بين الأهداف أيضاً، احتواء الصين، التي وقّعت اتفاقات تعدين مع حكومة «طالبان»، علماً أنه يمكن «باغرام» أن تتحوّل – كما قال الرئيس الأميركي نفسه – إلى موقع لمراقبة الأنشطة النووية الصينية. في المقابل، رفضت «طالبان» بشكل قاطع الطلب الأميركي، باعتباره يناقض «اتفاق الدوحة»؛ إذ قال كبير الناطقين باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد، إنه «يتعيّن على أميركا أن تكون واقعية ومنطقية، وأن تظلّ وفيّة لالتزامات اتفاق الدوحة، لأنّ أيّ محاولة للوجود العسكري، تشكّل خرقاً لهذا الاتفاق».

وتضرب تصريحات مسؤولي الحركة بجذورها، في أيديولوجيتهم الرئيسية القائمة على حفظ سيادة أفغانستان واستقلالها، وذلك بعد عقدَين من النضال المسلّح. فبالنسبة إلى هؤلاء، لا تمثّل «باغرام» موقعاً إستراتيجيّاً فقط، بل رمزاً للانتصار على الاحتلال الأميركي، عزّزه الاستيلاء عليها في عام 2021، فضلاً عن الاستعراض العسكري السنوي الذي يُقام فيها، ويتخلّله عرض التجهيزات التي تركتها القوات الأميركية خلفها إبّان الانسحاب. ومن الناحية الأيديولوجية، يعني تسليم القاعدة مجدّداً إلى الولايات المتحدة، التراجع عن المبادئ الإسلامية والوطنية لـ«طالبان»، ما من شأنه أن يعرّضها لتحدّيات داخلية، لعلّ أبرزها فقدان السند الذي تشكّله قاعدة الحركة التقليدية.

مع ذلك، أبدت «طالبان» حرصاً على حفظ علاقاتها الاقتصادية والديبلوماسية بالولايات المتحدة، وذلك في سبيل اكتساب الشرعية الدولية واستقطاب المساعدات الاقتصادية، في حين تعتبر أيّ وجود عسكري أجنبي، خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. ومن جهتها، حذّرت بكين، التي أبرمت اتفاقات تعدين بعدة مليارات دولارات مع «طالبان»، من أن عودة أميركا إلى «باغرام» يمكن أن تفضي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي وإذلال واشنطن، فيما أعلنت موسكو أنها ستدافع عن أرض أفغانستان، في حال قادت الولايات المتحدة محاولات لاستعادة القاعدة الجوية.

الآفاق المستقبلية
في ظل ما تقدَّم، يمكن رسم ثلاثة سيناريوات للمستقبل:

1- المصالحة المحدودة: بناءً على ذلك، يُرجّح أن تتوصّل الولايات المتحدة و«طالبان» إلى اتفاق محدود يسمح للأولى بانتشار عسكري محدود لتنفيذ مهمات «مكافحة الإرهاب» ضدّ «داعش خراسان». ويُعدّ هذا السيناريو مُرجّحاً، على خلفية حاجة الطرفَين المتبادلة (أميركا إلى الأمن الإقليمي، و«طالبان» إلى الشرعية)، بيد أن ثمّة عقبات يمكن أن تقوّض هذا الاتجاه، أهمّها انعدام الثقة المتبادل، والضغط الذي تمارسه المجموعات المتطرّفة داخل «طالبان».

2- زيادة التصعيد: في حال فشل المفاوضات، فمن المرجّح أن يزداد التصعيد بسبب الإجراءات الأحادية الأميركية، بما فيها فرض عقوبات اقتصادية جديدة. ويمكن هذا السيناريو أن يزداد تعقيداً، إذا تدخّل لاعبون أجانب، بمن فيهم روسيا والصين اللتان تعارضان الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. وقد تكون الصين، عن طريق الاستثمارات الاقتصادية في أفغانستان، في صدد تعزيز موقع «طالبان»، كي تتحوّل إلى أداة ضدّ النفوذ الأميركي.

ومن جهتهم، يستفيد معارضو الحركة، ولا سيما «جبهة المقاومة»، من أجواء التوتّر، باعتبارها فرصة لتعزيز موقعهم؛ علماً أن هؤلاء، وعبر تنفيذ عمليات في المناطق الشمالية للبلاد والتعاون مع الدول الجارة بما في ذلك طاجيكستان، يصعّدون من الضغط العسكري والسياسي على «طالبان»، كما يعتبرون أن الوجود الأميركي يقوّض شرعية الجماعة، ويجتذب الحماية الدولية لهم.

3- الحفاظ على الوضع القائم: في هذا السيناريو، تلجأ الولايات المتحدة إلى الاستفادة من القواعد العسكرية البديلة في باكستان أو بلدان آسيا الوسطى (مثل أوزبكستان أو طاجيكستان)، وهو ما يتيح لها القيام بعملياتها العسكرية التي تصبو إليها، من دون الحاجة إلى اتفاق مباشر مع «طالبان». مع ذلك، فإن هذا السيناريو ينطوي على تحدّيات، بما فيها التبعية للدول المستضيفة والتكلفة اللوجستية الباهظة.

كما إن عدم التعاطي المباشر مع الحركة، يمكن أن يؤدّي إلى تعميق عزلة هذه الأخيرة وتعزيز تعاونها مع منافسي الولايات المتحدة، وخصوصاً الصين. وعلى المدى الطويل، يمكن هذا الصراع أن يؤدي إلى تصاعُد التنافس الجيوسياسي بين أميركا والصين في المنطقة، فيما سيكون بمقدور بكين، التي تعارض الوجود العسكري الأميركي قرب حدودها، أن توسّع نطاق نفوذها في أفغانستان عن طريق مبادرات من مثل «الحزام والطريق».

وعلى أيّ حال، يمثّل الضغط الأميركي على «طالبان» من أجل استعادة قاعدة «باغرام»، انعكاساً لموروث الحرب الأفغانية والتنافس الدولي، أكثر من كونه خلافاً عسكريّاً. أمّا المستقبل، فيتوقّف على مرونة الطرفَين؛ وبغير ذلك، فإن التدهور الأمني في المنطقة سيتصاعد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى