رأي

صفقة البحر الأسود تمتحن العلاقات الروسية – التركية.

كتب طوني فرنسيس في إندبندنت بالعربي.

بعد أقل من نصف عام على إعادة انتخابه على رأس الدولة التركية، تمكن رجب طيب أردوغان من تحسين علاقاته مع الغرب وحلف شمال الأطلسي (ناتو) وبلاده عضو فيه، وحافظ على علاقته الخاصة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولم يهدر الوقت في محاولته تثبيت موقعه كوسيط أساسي بين روسيا وأوكرانيا في الحرب الدائرة بينهما.

كان اتفاق البحر الأسود في شأن إعادة ضخ صادرات الأغذية والأسمدة من أوكرانيا إلى العالم إنجازاً لأردوغان، فتم توقيع الاتفاق في إسطنبول في يوليو (تموز) من العام الماضي بمشاركة طرفي النزاع روسيا وأوكرانيا إضافة إلى تركيا والأمم المتحدة، وأمكن بموجبه تصدير نحو 33 مليون طن من الحبوب والمواد الغذائية إلى البلدان المحتاجة والأسواق العالمية، مما أسهم في لجم الأسعار ومنع حصول مجاعة في البلدان الأكثر فقراً.

كان اتفاق البحر الأسود حاجة لأوكرانيا التي تكدست محاصيلها وعجزت عن تصديرها، هي التي تزوّد الأسواق العالمية سنوياً بأكثر من 45 مليون طن من الحبوب، وكان كذلك حاجة لروسيا إذ لم تشمل العقوبات المفروضة عليها بسبب الهجوم على أوكرانيا، صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، وساعدت الحاجة الروسية إلى تركيا كمنفذ ومتنفس لها في عالم يحاصرها، في الاستجابة الروسية للطلب التركي والدولي، لكن موسكو بقيت على تحفظها وتعاملت مع الاتفاق كسلاح سياسي يجري اللجوء إليه عند الضرورة التي تقتضيها مجريات المعركة العسكرية من جهة، والعلاقات السياسية مع مختلف الأطراف بما فيها أنقرة من جهة أخرى.

فرضت حماوة المعركة الانتخابية الرئاسية في تركيا في مايو (أيار) الماضي على روسيا تمديد العمل باتفاق الحبوب لمدة شهرين، واتخذ الكرملين قراره قبل أيام من الجولة الثانية من الانتخابات، دعماً لأردوغان في وجه منافسه كليتشدار أوغلو الذي أدلى بتصريحات غير مرضية لموسكو، ولم يُخفِ الكرملين تفضيله فوز أردوغان الذي بنى معه علاقات متينة طوال الأعوام التي أعقبت التدخل الروسي في سوريا، متخطياً إسقاط الجيش التركي للطائرة الحربية الروسية غداة ذلك التدخل، ليعلن نفسه لاحقاً شريكاً في الكشف عن محاولة الانقلاب على الرئيس التركي في صيف 2016.

ليست أمام روسيا بدائل متاحة عن استمرار التعاون مع تركيا أردوغان، لكن “أردوغان الجديد” بعد انتخابات الرئاسة الأخيرة ذهب أبعد مما تتحمله موسكو التي لم تخفِ قلقها ومخاوفها.

وفي مناسبة لقاء سوتشي قبل أيام، لم تتردد صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” في الإعلان أن “روسيا فقدت ثقتها بأردوغان بعدما فقدتها بالغرب”، وفقدان الثقة كان تراكمياً، فمنذ فوزه مجدداً برئاسة بلاده أرسل الرئيس التركي إشارات عدة أغضبت موسكو، إذ وافق على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي ليكتمل حصار “ناتو” لروسيا من الشمال، وأعرب عن دعمه لانضمام أوكرانيا نفسها إلى الحلف المذكور، ثم أعاد إليها ضباط مجموعة آزوف الذين اعتقلتهم روسيا وسلمتهم إلى تركيا على أن يبقوا فيها… ولم تقف روسيا متفرجة، فقصفت مصانع أوكرانية قيل إنها تنتج قطعاً للصناعات العسكرية التركية وأوقفت وفتشت سفينة تركية كانت متجهة إلى الموانئ الأوكرانية، وأخيراً وفي مشهد سريالي، اجتمع الرئيسان في سوتشي فيما كان الطيران الروسي يقصف تجمعات أنصار تركيا في إدلب والمدفعية التركية تقصف مواقع حلفاء موسكو في الشمال السوري.

تأخر أردوغان كثيراً في القدوم إلى روسيا، قال معلقون روس، ورأى نظراؤهم الأتراك أن بوتين أخلّ بالوعد ولم يحضر إلى أنقرة في أغسطس (آب) الماضي، وعلى رغم ذلك حصل اللقاء خارج العاصمتين الروسية والتركية، في سوتشي، في امتحان جديد لعلاقة محكومة بالاستمرار.

لم يقدم بوتين تنازلات في شأن اتفاق الحبوب، وتمسك بمطالبه في رفع القيود عن الصادرات الروسية والتعامل المصرفي مع بنوك بلاده، لكن الاتفاق الذي وقع في يوليو 2022 لم ينص على أي من هذه الشروط، كما يقول فاضل الزعبي ممثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) السابق في الشرق الأوسط، فهو وقّع بين الأطراف كل على حدة والأمم المتحدة تعهدت، فقط، بالسعي إلى رفع القيود لدى واضعيها في المجموعة الدولية الغربية.

لا شك في أن بوتين كان يدرك ذلك قبل اتخاذه القرار بوقف العمل بالاتفاق في يوليو الماضي، لكنه حاول إلى الحد الأقصى استكشاف المدى الذي يمكن أن يذهب إليه التعاون مع أردوغان، ولم يخذل الرئيس التركي صديقه أقله في الشكل، فقبل أسابيع قال في مؤتمر سفراء بلاده (التاسع من أغسطس) إن التمديد لاتفاق الحبوب مرتبط بوفاء الدول الغربية بوعودها، لكنه في لقاء سوتشي الذي استغرق ثلاث ساعات لم يبدِ حماسة لبدائل بوتين بالتعاون مع قطر ووعد عشية انعقاد قمة “مجموعة الـ20” بطرح المسألة عليها وعلى الأمم المتحدة الشريكة في مبادرة البحر الأسود.

قالت صحيفة “يني شفق” التركية إن مساعي إحياء اتفاق الحبوب لم تنجح، لكن العلاقات الثنائية شهدت تطورات إيجابية في المجالات الاقتصادية والسياسية… وفي هذا التقييم تخفيف من حجم الخلافات بين الجانبين، إذ إن أردوغان كان يأمل في إقناع بوتين بالعودة لصفقة الحبوب قبل قمة “الـ20” واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفاجأه بوتين باقتراح تصدير مليون طن من الحبوب إلى تركيا ثم نقلها إلى دول محتاجة بتمويل قطري. كانت تركيا ستستفيد مباشرة من صفقة كهذه، لكنها ستخسر الدور الذي تتمسك به وهو الوسيط الأول بين كييف وموسكو… أي عملياً بين الغرب وروسيا.

كرست أنقرة في جولة سوتشي الجديدة سياسة أكثر ابتعاداً عن موسكو، ولاحظت صحيفة روسية بأسى أنه حتى الصين، حليفة روسيا القوية، وقفت إلى جانب تركيا.

وقالت “موسكوفسكي كومسوموليتس” إن السفير الصيني لدى تركيا ليو شاو بينغ أعلن قبل يومين من لقاء بوتين أردوغان أن “الصين ترى موقف تركيا متوازناً وتقدر جهودها في استئناف عمل ممر الحبوب”.

كانت تلك، برأي الصحيفة، رسالة إلى بوتين من الزعيم الصيني شي جينبينغ، فالصين كانت المستفيد الأكبر من اتفاق البحر الأسود  واشترت 8 ملايين طن من أصل 32 مليوناً من المواد الغذائية الخارجة من موانئ أوكرانيا!

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى