سوريا الجديدة بين واشنطن وتل أبيب ودمشق: صفقة الجنوب بين إلغاء قيصر وشرط أمن إسرائيل

تتشكل في سوريا اليوم معادلة سياسية وأمنية مختلفة جذرياً عما كان في عهد نظام الأسد. لم تعد الساحة السورية مجرد ملف صراع داخلي أو ورقة في يد حلفاء دمشق السابقين، بل أصبحت محور تفاوض غير معلن بين الولايات المتحدة وإسرائيل و«سوريا الجديدة» بقيادة الشرع، حول مستقبل الجنوب، ومعنى السيادة، وحدود ما يُسمح وما لا يُسمح به على جبهة الجولان.
الركيزة الأولى في هذا المشهد هي التحول الأميركي. واشنطن انتقلت من استراتيجية الحصار والعزل الكامل إلى مقاربة مزدوجة: تعاون أمني متصاعد مع مؤسسات الدولة السورية الجديدة، وربطه بحافز سياسي واقتصادي مباشر يتمثل في مشروع إلغاء قانون قيصر داخل الكونغرس. هذا الإلغاء لا يُقدَّم كتنازل مجاني، بل كصفقة مشروطة بوضوح: التزام رسمي من دمشق بعدم استخدام الأراضي السورية في أي هجوم على إسرائيل، وضبط نشاط الميليشيات والقوى الحليفة لإيران في الجنوب، وتثبيت حدود آمنة وقابلة للرقابة على خط الجولان.
بهذه الصيغة، يتحول قانون قيصر من أداة عقاب إلى ورقة تفاوض: رفع العقوبات مقابل أمن إسرائيل من جهة، واستعادة الدولة السورية لقدرتها على التنفس اقتصادياً وجذب الاستثمار من جهة أخرى. واشنطن، ومعها عواصم خليجية مؤثرة، ترى أن خلق دولة سورية موحدة مستقرة، مرتبطة اقتصادياً بالمنظومة الإقليمية، هو الطريق الأجدى لتقليص نفوذ إيران وروسيا والصين، وأكثر فاعلية من إبقاء الخراب والفوضى.
في المقابل، تتعامل إسرائيل مع «سوريا الجديدة» بعين أمنية صرفة. الهاجس الإسرائيلي الأول هو الجنوب: درعا، القنيطرة، ريف دمشق، ومنحدرات جبل الشيخ. هناك إصرار واضح في تل أبيب على منع أي تموضع عسكري يمكن أن يُستغل مستقبلاً ضدها، حتى لو كان تحت راية الجيش السوري الرسمي. لذلك تدفع إسرائيل باتجاه ترتيبات تضمن لها ثلاثة أمور أساسية: عمق أمني أوسع مما نص عليه اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، قدرة مستمرة على مراقبة وضرب أي تهديد محتمل داخل سوريا، وعدم نشوء جيش سوري قوي ومتماسك في الجنوب بعيداً عن السيطرة الإسرائيلية غير المباشرة.
هنا تحديداً تنكشف فجوة متزايدة بين واشنطن وتل أبيب. الإدارة الأميركية تسعى إلى شريك سوري يمكن التفاهم معه وضبطه بالقانون والعقود والاتفاقات، بينما تميل إسرائيل إلى perpetuation حالة «اللا دولة الكاملة» في الجنوب، التي تسمح لها بهوامش حركة واسعة جواً وبراً. إصرار تل أبيب على فرض صيغة منطقة منزوعة السلاح واسعة من جنوب دمشق حتى الحدود، واحتفاظها بمواقع استراتيجية مشرفة على العمق السوري، يصطدم بتوجه أميركي يُفضِّل عودة الدولة السورية إلى الجنوب تحت رقابة وضمانات، لا تركه فراغاً مفتوحاً.
أما دمشق الجديدة بقيادة الشرع، فتطرح معادلة ثالثة: لا تفريط بالسيادة، ولا عودة إلى فوضى السلاح، مع استعداد لتقديم ضمانات أمنية صريحة. الخطاب السياسي والعسكري الجديد يركز على أن الجيش السوري، بعد إعادة هيكلته، قادر على تولي مسؤولية كاملة عن الحدود، ومنع أي عمل عدائي ضد إسرائيل ينطلق من الأراضي السورية، شرط أن يُسمح للدولة بإعادة بسط سيادتها الفعلية على الجنوب، وأن يُوقف استنزافها بالعقوبات والقصف المتكرر.
بهذا المنطق، تُطرح العودة إلى اتفاق 1974 كإطار قانوني يمكن تحديث آلياته لا مضمونه: مراقبة دولية معززة، قنوات اتصال أمنية واضحة، ومستويات تسليح وانتشار متفق عليها، مقابل رفع تدريجي للعقوبات، يتوّجه إلغاء قانون قيصر رسمياً عبر الكونغرس، على قاعدة التزام سوري مكتوب بعدم الهجوم على إسرائيل أو السماح باستخدام الأرض السورية لهذا الغرض.
القوة الحقيقية لهذا التحول تكمن في تداخل الملفات: أمن إسرائيل لم يعد منفصلاً عن رفع العقوبات عن دمشق، ومستقبل الجنوب لم يعد شأناً سورياً خالصاً ولا إسرائيلياً صرفاً، بل نقطة توازن بين مشروع دولة تريد أن تقوم من تحت الأنقاض، وقوة إقليمية تريد أماناً مطلقاً على حدودها، وقوة دولية ترى أن استقرار سوريا الجديد هو مدخل لإعادة تشكيل موازين الشرق الأوسط.
هكذا تُرسم خطوط صفقة الجنوب: إلغاء قيصر مقابل تعهد بعدم الهجوم على إسرائيل، اعتراف عملي بسوريا جديدة ذات سيادة مقابل مسؤولية أمنية صارمة، وتفاهم ثلاثي غير معلن يحدد إلى أي حد يمكن أن تكون سوريا دولة كاملة على حدود إسرائيل، بلا حرب، لكن أيضاً بلا سلام مكتمل.




