امن وقضاء

سجناء لبنان يُعانون أزمة مضاعفة بسبب الانهيار… تراجع جودة الطعام ونوعيته والطبابة

لا شك في أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي ضربت لبنان انعكست بنحو مضاعف على السجناء الذين باتوا يعانون من أصعب الظروف. فكل ما يُعاني منه المواطن من غلاء للأسعار وانقطاع للدواء وغيرها من متطلبات الحياة أصبح الحصول عليه في السجن أمراً صعباً للغاية. ما يزيد من هذه الأوضاع هو انتماء معظم السجناء للطبقة الفقيرة التي باتت تصارع للصمود في وجه الأزمات، فكيف الحال بهم داخل السجن!

صرخة سجين
“السجن أصبح مقبرة جماعية، ينتظر كل سجين وفاته، إمّا بسبب الجوع أو مرض لا طاقة له لتأمين علاجه”. بهذه العبارة أطلق أحد سجناء رومية صرخة عبر “النهار” للفت الأنظار إلى المعاناة التي يعيشونها، ويصف السجين واقع سجن رومية بـ”المزري على الأصعدة الاجتماعية والغذائية والصحّية كافة”. ومن أبرز أوجه هذه “الكارثة الانسانية التي تضرب أكثر من أربعة آلاف سجين، أن الإدارة باتت تخصّص للسجين وجبتين بمعدّل 100 غرام لكل وجبة بعد أن كانت تخصّص 3 وجبات بمعدل 200 غرام لكل وجبة، فضلاً عن تردّي نوعيتها”، وفقاً لما قاله السجين.
ويلفت السجين الى أن “اللحم لم يعد موجوداً في الوجبات، بحيث تقتصر إما على برغل ناشف أو أرز ناشف، وبفضل المساعي التي قمنا بها باتوا يقدّمون الدجاج ليوم واحد فقط في الأسبوع وذلك بعد الحرمان منه لأشهر”. وتابع: “يزداد الأمر سوءاً في ظلّ حصر الإدارة الشراء من حانوت السجن (الدكان) الذي يتحكم بالأسعار كيفما يشاء دون حسيب ولا رقيب، ومنع أهالي السجناء من إدخال الطعام لأبنائهم بحجّة إدخال الممنوعات في الطعام”.
معاناة سجناء رومية لا تنتهي عند الطعام والشراب “بل تشمل كذلك الطبابة في السجن التي أصبحت معدومة، فالدواء كله أصبح على حساب السجين إضافة الى تأمين 20 في المئة من تكلفة العمليات وصور الأشعّة، وأخيراً تأمين 300 ألف عند كل استشارة طبّية يريد أن يجريها السجين في المستشفى حيث أصبح السجين بحاجة الى ميزانية عائلة بأكملها من أجل تأمين حاجاته وطبابته وأكله وشربه داخل السجن”. كما أشار السجين الى أنهم “بحاجة الى تحرّك سريع من كافة المسؤولين لإيجاد حلول لمسألة الطبابة والطعام والشراب إضافة الى تأمين أغطية وفرش وتأمين أدوية للأمراض المزمنة التي فُقدت في الآونة الأخيرة”.

تراجع زيارات الأهل
معظم الجوانب التي تطرّق إليها السجين يوافق عليها رئيس جمعية “عدل ورحمة” الأب نجيب بعقليني، التي تتخذ من “خدمة الإنسان السجين” قضيّة لها. ويرى “بعقليني أن لبنان يعيش وضعاً اقتصادياً واجتماعياً صعباً، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على السجون. فقبل الأزمة كان وضع السجون مزرياً على جميع الأصعدة، سواء النفسية أو الصحية أو الأماكن التي تستقبل هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا حرّيتهم ويجب على الدولة أن تؤمّن لهم حقوقهم الأساسية من مأكل ومشرب وأماكن نظيفة. إلّا أن الانهيار الذي ضرب لبنان جعل الوضع أكثر سوءاً للسجناء وعائلاتهم”.
فعلى صعيد الطعام، يؤكد بعقليني أن “المطبخ بحالة نظيفة، والسجناء هم من يقومون بتحضير الطعام تحت إشراف اختصاصي تغذية إلا أن جودة الطعام قد تراجعت كثيراً”. وفي السابق، كان بعض السجناء يعمدون بأنفسهم لشراء المواد من “الحانوت” بحيث يطهونها بانفسهم، غير أن أسعار هذه الموادّ باتت مرتفعة جداً”. أما بالنسبة الى الأدوية، فيُعاني سجن رومية من “شحّ كبير رغم المحاولات لتأمينه ولا سيما من قبل الجمعيات الأهلية ومنظمة الصحّة العالمية التي تولت معالجة جائحة كورونا في السجون”، وفقاً لبعقليني.
الأزمة لم تقتصر على الحاجات الأساسية، بل طالت جانباً آخر متمثّلاً بزيارات الأهل التي تراجعت كثيراً بسبب كلفة المواصلات، فضلاً عن انعكاسها على دفع الغرامات وإخلاء السبيل، “فكثيراً ما كانت هناك حالات لا تملك مبالغ لا تتعدّى 500 ألف ليرة للخروج من السجن، لذا تقوم الجمعيات الأهلية بالمساعدة قدر المستطاع”. وأمام هذا الواقع، يصمّم الأب بعقليني على إطلاق نداء للجهات المانحة لتقديم مساعدات “لهؤلاء الأشخاص المهمّشين”.
وبين الحين والآخر يُحاول السجناء إيصال صوتهم الى العالم الخارجي فيعمدون الى أساليب متنوّعة من التواصل مع وسائل الإعلام مروراً بالاحتجاج وصولاً الى طُرق قد تكون عنفية في بعض الأحيان تتمثل بتشطيب أنفسهم بآلات حادّة، فهم يعتبرون أن بقاءهم في هذه الظروف في السجون مسألة غير مقبولة. ورغم ذلك، فإن إيصال صوتهم للجمعيات الأهلية والمسؤولين لم يجعل من تحسين ظروفهم الحياتية احدى أولويات الدولة في بلد يُعاني هذا الكمّ الهائل من الأزمات.

سجون النساء… ليست أفضل!
الوضع في سجون النساء ليس أفضل من سجن رومية، فوفقاً لمديرة جمعية “دار الأمل” هدى قرى، وهي جمعية معنيّة بمساعدة السجون والسجينات منذ عام 1996، فإن “النسبة الأكبر من السجينات تنتمي لعائلات فقيرة لا تملك إمكانيات مادّية، والأزمة لم تعد تسمح لهذه العائلات بزيارتهن ولا تأمين المواد الأساسية التي يحتجن لها”. كما تتكرّر المعاناة في ما يتعلق بالطعام مع فارق أنّ ثمّة متعهّداً يقوم بتوزيع الطعام، فيما تُطالب قرى “بتأمين المواد التي تُستخدم للسجينات وهن من يطهونها إلا أن ذلك لم يتمّ لأسباب معيّنة”.
وفي ظلّ انتشار فيروس كورونا وما نتج عنه من حظر تجوال، بالإضافة الى قطع الطرقات التي شهدها لبنان في السنتين الماضيتين وإضراب المحامين، كل ذلك أدّى الى “زيادة الاكتظاظ في السجون”. هذا الاكتظاظ الذي ترافق مع الانهيار الاقتصادي دفع الجمعية للتدخل في الكثير من الأحيان لإجراء “تصليحات بشكل شبه دائم للسجون”. كما تلفت قرى الى نوع من الاستغلال الذي تُعاني منه السجينات، اذ إن أسعار المواد في “الحانوت” باتت مضاعفة عن أسعار باقي التعاونيات.

ارتفاع تكاليف المحامين
مشكلة أخرى تُعاني منها السجينات في ظل الظروف الحالية، وهي عدم قدرتهنّ على دفع تكاليف المحامي التي ارتفعت بنسبة كبيرة، ورغم أن نقابة المحامين لديها ما يسمّى “معونة قضائية” بحيث تقوم بتوكيل محامين متخرّجين حديثاً عن السجينات اللواتي لا يملكن الأموال اللازمة لتوكيل محامٍ، تبقى هذه الآليّة غير مفعّلة، وفقاً لقرى.

الأزمة تُعرّي قضيّة السجناء
من ناحيته، يستذكر مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس المحامي محمد صبلوح ما حدث في كانون الأول 2019 عندما دخل وفد من نقابتي المحامين في بيروت و طرابلس سجن رومية وخرجوا آنذاك وهم “يبكون”. ولفت صبلوح إلى أن “الأوضاع داخل السجن دفعتهم الى اتّخاذ قرار بمساعدة السجناء من خلال تخفيف الاكتظاظ عبر الدفع لتطبيق المادة 108 التي حدّدت سقف التوقيف الاحتياطي بأربعة أشهر حدّاً أقصى في الجنح و12 شهراً في الجنايات”.
أبرز المشاهد التي لا تفارق بال صبلوح هي وجود أكثر من ألف سجين في مبنى لا يتّسع سوى لـ200 سجين، وهذا الاكتظاظ يدفع السجناء للتناوب على النوم بين الغرف والممرّ الداخلي. أمّا اليوم، فيسعى صبلوح الى جانب الجمعيات والأهالي لتأمين “آلات للتدفئة” نظراً لعجز الدولة على القيام بذلك.
يؤكد صبلوح أن هناك إهمالاً من الحكومات المتعاقبة في ما يتعلق بالسجناء، “فالسجن يجب أن يكون مكاناً للتأهيل والإصلاح، فيما هو بعيد كل البعد عن ذلك، أما الأسباب فتعود إلى عدم تأمين حقوق السجناء وحاجاتهم”. وأضاف “الدولة لم تعد لديها القدرة على تأمين الطعام للسجناء، كما أن أسعار الحانوت باتت مضاعفة ولم يعد لدى الأهالي القدرة على مساعدة أبنائهم.
وفي السابق كان نحو 30 في المئة من السجناء يأكلون من طعام السجن فيما الباقي يعتمد على ما يؤمنه الأهل، أما اليوم فقد بات الجميع يريدون أن يأكلوا من طعام السجن والدولة لم يعد باستطاعتها تأمين الطعام للجميع. ومن أبرز المسائل التي يُشير إليها صبلوح “غياب أي مستشفى ميداني للحالات الطارئة، كما أن وزارة الصحة ليست مشرفة على الإدارة الطبّية في السجون، وفي السنوات الماضية تُوفي أكثر من 4 أشخاص بذبحة قلبية بسبب عدم القدرة على نقل الأدوية الى السجن لأسباب روتينية”. وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية الحالية باتت الدولة تغطي 70% فقط من تكلفة العمليات فيما يلجأ الأهالي والجمعيات الى التبرّعات لتغطية الكلفة الباقية. ويخلص صبلوح الى أن حل جزء كبير من هذه المشاكل من خلال تقليص السنة السجنية من 9 أشهر الى 6 أشهر.
يعترف مصدر أمني في حديث لـ”النهار” بالوضع السيّء الذي بات السجناء يعيشون فيه من الطعام والدواء وباقي الظروف الحياتية، موضحاً أن ميزانية السجون في معظم دول العالم تكون منخفضة، فكيف الحال في بلد يُعاني من أزمة حادة بهذا الشكل. ويرى المصدر الأمني أن معالجة قضية السجناء يجب أن تنطلق من معالجة الاكتظاظ الكبير في السجون.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى