رأي

سجال العلاقات الإيرانية – الروسية: «التوجّه شرقاً» تتنازعه رؤيتان

كتب محمد خواجوئي, في الاخبار:

يتفاقم الجدل في طهران حول العلاقة مع موسكو بين دعاة التحوّل شرقاً ومؤيّدي التوازن، كاشفاً تصدّعات داخلية في مقاربة إيران لتحالفها مع روسيا.

| تحوّل موضوع العلاقات الإيرانية – الروسية، في أثناء الأسابيع الأخيرة، إلى ساحة رئيسة للسّجال السياسي في طهران، الضارب بجذوره في الحدود بين السياسة الخارجية والتنافس الفئوي، وإنْ برز اليوم بصراحة غير مسبوقة على مستوى كبار المسؤولين. وقد وجّه رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، أمس، ومن على منبر البرلمان، انتقاداً مباشراً للرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، على خلفية تصريحاتهما حول دور روسيا في الملفّ النووي والعلاقات الإقليمية.

وقال: «في الظروف التي يحرز فيها تعاوننا الاستراتيجي مع روسيا تقدُّماً، فإنّ بعض المواقف تربك هذا المسار»، مشيراً خصوصاً إلى التصريحات التي أدلى بها ظريف، والتي يزعم حماة سياسة «التحوّل شرقاً» أنها ترسم صورة سلبية عن «الشريك الاستراتيجي لإيران»، وتعاكس السياسة العامة للبلاد، لجهة التعاون مع الشرق.

وجاء هجوم قاليباف، في وقت تمرّ فيه العلاقات بين البلدين في واحدة من أكثر المنعطفات حساسيّة، ولا سيّما بعد الرسالة المشتركة لإيران وروسيا والصين، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حول انتهاء أجَل القرار 2231، وعدم الاعتراف بعودة العقوبات الأممية على الجمهورية الإسلامية، في ضوء تفعيل القوى الأوروبية «آلية الزناد». وفي هذا الخصوص، أكّد قاليباف، أنّ هكذا تعاون يُعدّ «إنجازاً وطنيّاً»، ولا يجب على أيّ تيار سياسي تقويضه عبر الإدلاء بمواقف شخصية.

لكن، وعلى الجانب الآخر، يذهب منتقدو السياسة الخارجية الإيرانية إلى الإشارة إلى أنّ الأخيرة ليست مجرّد مجموعة من الصداقات والعداوات، بل هي ساحة للمصالح القومية والحسابات المعقّدة التي تقتضي أحياناً انتقاد حتى أقرب الشركاء. وكان وزير الخارجية الأسبق، جواد ظريف، الذي وقّع – نيابةً عن بلاده – على «خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015، أدلى، في الأسابيع الماضية، بسلسلة تصريحات لاقت صدىً واسعاً في وسائل الإعلام المحلّية، زعم فيها أنّ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وضع في أثناء المحادثات حول الاتفاق النووي، عقبات على طريق التوصّل إلى اتفاق.

وتحدّث أيضاً، عن «خطَّين أحمرَين» لموسكو، إزاء طهران: «روسيا لا تريد لإيران أن تتوصّل إلى سلام مستدام مع الغرب، ولا الدخول في مواجهة جادّة معه، لأنّ استمرار حال التعليق يخدم المصالح الروسية»؛ وهي تعليقات فسّرتها الوجوه الأصولية، والإعلام القريب منها، على أنها تشكّل «نسْفاً للعلاقات الاستراتيجية بين إيران وروسيا».

مع ذلك، فإنّ واقعاً مختلفاً ينسحب على حسن روحاني؛ إذ يؤكّد مستشارو الرئيس الأسبق، أنه لم يدلِ في أثناء الأشهر الماضية، بأيّ موقف علني يخصّ روسيا، وأنّ نَسْب هكذا كلام إليه، ناجم عن التحليلات الإعلامية أو التقارير المغلوطة. وردّاً على تصريحات قاليباف، كتب حسام الدين اشنا، بتهكّم: «ليس جيداً أن تقرأوا بصوت عالٍ أيّ نص مكتوب يضعونه بين أيديكم». وبذلك، فإنّ المحور الرئيس لهجوم قاليباف، ورغم أنه موجّه في الظاهر نحو كلَي الشخصيّتَين، لكنه يستهدف أولاً وأساساً، ظريف، ومذكّراته المشحونة بالتوتّر عن العلاقة مع لافروف وروسيا.

تمرّ العلاقات الإيرانية – الروسية، في واحدة من أكثر المنعطفات حساسيّة

لكن، لماذا صارت هكذا مواقف مثيرة للحساسيات فجأة؟ على أنه لا يمكن عزل الإجابة عن الوضع الراهن الذي تعيشه إيران؛ فمع عودة العقوبات الأممية ضدّها، والضغوط المضاعفة التي تقاسيها، باتت الاستراتيجية الرسمية للبلاد وأكثر من أيّ وقت مضى، قائمة على «التعاون الشرقي»، لا سيّما مع روسيا والصين. وتتبدّى هذه العقيدة في تصريحات الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، فضلاً عن سياسات البرلمان والمجلس الأعلى للأمن القومي.

ومن هذا المنطلق، وضع قاليباف، في كلمته، يده على الهواجس المرتبطة بضرورة التناغم الداخلي، إذ اعتبر أنه «في هذه المدّة الزمنية الحسّاسة، يُتوقّع من جميع التيارات السياسية أن تدافع بوحدة الكلمة عن المكاسب الوطنية أمام الضغوط الخارجية»، وهو بذلك وضع تصريحات ظريف في إطار «الخروج على الإجماع الوطني».

من ناحية أخرى، يضع الإصلاحيون والقريبون من حكومة روحاني السابقة، الهجوم السياسي عليهم، في سياق يتخطّى محاولة ترسيخ «الرواية الرسمية لسياسة التحوّل شرقاً»، وصولاً إلى اعتباره جزءاً من التنافس داخل الدولة حول تعريف مستقبل السياسة الخارجية. ويذهب الصحافيون القريبون من الإصلاحيين، إلى القول إنّ إدارة روحاني، طوّرت العلاقات مع روسيا، إلى مستوى غير مسبوق، بدءاً من مشروع محطّة «بوشهر» النووية والمحطة الثانية، وصولاً إلى شراء الأسلحة والتعاون في سوريا.

وعليه، فإنّ اتّهام الحكومة السابقة بتقويض العلاقات مع روسيا، هو بمنزلة «تحريف للتاريخ». ووفقاً لتحليل آخر، فإنّ ظريف، وعلى النقيض من الصورة المرسومة عنه، حذّر فقط من أنّ العلاقات مع روسيا، يجب أن تمضي قدماً «في ظلّ تحديد المصالح المتبادلة»، لا الثقة من دون قيد أو شرط. وهكذا كلام، في أيّ نظام سياسي عادي، هو مصداق للنقد التخصّصي لا الخيانة.

وبعيداً من ظاهر الجدال، فإنّ المسألة تعود إلى التنافس بين رؤيتَين في السياسة الخارجية لإيران: الأولى، التي تعتبر أنّ التحوّل شرقاً يُشكّل العمود الفقري للاستراتيجية الوطنية، وترى أنه يتعيّن على إيران، في عالم ثنائي القطب ما بعد الحرب الأوكرانية، أن تصطفّ في محور روسيا والصين بالكامل، كي تتمكّن من تحييد الضغوط الغربية. والثانية، تؤكّد على «تنويع» العلاقات الخارجية، وتجنّب التّبعية لأحد القطبين، وترى أنّ روسيا، ورغم كونها شريكاً مهمّاً، ستغلّب في النهاية مصالحها على مصالح إيران. وهاتان الرؤيتان، تعكسان في الحقيقة قرائتَين للتجربة التاريخية لإيران، مع القوى الكبرى: الأولى، ترى روسيا، «في الخندق المناهض للعقوبات»، والثانية تعتبرها «شريكاً حذِراً» يجب إدارته في ظلّ التحلّي بالوعي والتوازن مع الغرب.

وجليّ أنّ قاليباف، ينتمي إلى الرؤية الأولى، إذ يعتبر العلاقات بين إيران وروسيا، أكثر من مجرّد تعاون مرحلي، بل جزء من مسار استراتيجي يمكن أن يبلور نظاماً عالمياً جديداً يخدم بلاده. وفي المقابل، يتحدّث ظريف، عن خطر «التبعية الاستراتيجية»، ويقول إنّ موسكو، لم تضحِّ في أيّ حقبة، بمصالحها من أجل إيران. وهاتان الرؤيتان، هما انعكاس لتيّارَين تاريخيَّين في السياسة الإيرانية: تيّار «مستقلّ ميّال إلى الشرق»، وتيّار «التعاطي الميّال إلى التعدّدية القطبية».

ومن ناحية التّبعات، فإنّ لهذا الجدل، حدَّين: فمن جهة، يمكن أن يشكّل فرصة لإعادة تعريف الوحدة الداخلية والتبيان الأدقّ للعلاقة مع روسيا. وهكذا، كلّما كانت السياسة الإيرانية، تجاه حلفائها أكثر شفافية وانسجاماً، كلّما كانت لها اليد الطولى في المحادثات الاقتصادية والأمنية.

لكن، من جهة أخرى، إذا تحوّل الخلاف إلى صراع فئوي، يمكن حينئذٍ أن يُفسّر كعلامة على التصدّع الحاصل على مستوى صنّاع القرارات الكبرى، ويُضعف ثقة موسكو، بالتنسيق الداخلي لطهران. أمّا روسيا، المتورّطة في الحرب الأوكرانية، والواقعة تحت تأثير الضغوط الغربية، فهي تبحث عن شركاء «يمكن توقّعهم». لذلك، فإنّ الخلافات العلنية في طهران، حتى وإنْ كانت داخلية المنشأ، تشكّل، من وجهة نظر موسكو، علامة على غياب الثبات والاستقرار.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى