رأي

أفق القضية الفلسطينيَّة أمام مأزق الإمبريالية الغربية الأخلاقي.

كتب د. خالد حاجي في الجزيرة.

كلّ شيء يحملنا على الاعتقاد أنَّ ما يحصل في فلسطين اليومَ من أحداثٍ أليمة فصلٌ جديدٌ من فصول تراجيديا شرعت القوى الغربية في كتابتها منذ الحرب العالمية الأولى، وهي لا تدري بعدُ كيف تختمها. ويأتي هذا الفصل الجديد جزءًا كذلك من أحداث كبرى تؤشّر على وجود عالمٍ جديد يرتسم في الأفق، عالمٍ يبدو أنّ أضرار الإنسان الفلسطيني فيه ليست سوى أضرارٍ جانبية.

يتحدّث “تيم مارشال” (Tim Marshall) في كتابه حول “أسرى الجغرافيا” (Prisoners of Geography) عن الشرق الأوسط قائلًا: “وسط ماذا؟ وأي شرق؟ فاسمُ هذه المِنطقة في حدّ ذاته ينبني على نظرة أوروبية للعالم، وقد كانت هذه النظرة وراء تشكيل هذه المِنطقة. لقد استعمل الأوروبيون الحِبر لرسم الخطوط على الخرائط: كانت خطوطًا لا وجود لها في الواقع، فتمخّض عنها حدود اصطناعية من أكبر الحدود التي شهدها العالم. واليوم هناك محاولات لإعادة رسم هذه الخرائط بالدم”.

لا يبعد أن يكون قصد القوى الإمبرياليّة من وراء رسم خرائط العالم بالحِبر هو شَغْل الشعوب بإعادة رسمها بالدم. يُؤيد ذلك ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا من تطاحن. فكلّ المؤشّرات تقوي اعتقادنا أنّ الحالة الروسية – الأوكرانية لا تعدو أن تكون نتيجة شيء من اثنَين: إما سوءَ تقدير لعلاقة الدولة الروسية بالجغرافيا، وهو أمر مستبعد؛ وإما تخطيطًا استراتيجيًا محكمًا، الهدف من ورائه إيقاظ فتنة لها أوّل وليس لها آخر؛ طلبًا لشغل الدولة الروسيَّة في حرب استنزاف.

في البدء، كان الغرب يجد مسوّغه الأخلاقي لتأسيس إسرائيل في مقولة: “أرض بلا شعب من أجل شعب بلا أرض”. وكانت المراهنة على التهجير الجماعيّ لطمس معالم الوجود الفلسطيني في الجغرافيا

من المستبعد أن يخفى على دول الحلفِ الأطلسيّ، تحت إمرة أميركا، أنَّ القَبول بانضمام أوكرانيا لهذا الحلف هو، على الحقيقة، رسمٌ بالحِبر لخريطة جديدة تهدّد بنسف مقوّمات الوجود الروسي. فروسيا – كما يجلي لنا “تيم مارشال” في سنة 2015، أي سبع سنوات قبل الشروع الروسيّ في غزو أوكرانيا- أسيرةُ معطيات جغرافية ترهن بقاءَها وأمنها القومي بالوصول إلى المياه الدافئة. وقد دأبت منذ القيصر إيفان الرّهيب، أي منذ القرن السادس عشر، على تأمين نفوذِها على الواجهة الغربية؛ دفعًا للأخطار التي قد تأتيها من القارَّة الأوروبية. باختصار، يمكننا القول إنّه يصعب تصوُّر قبول دول الحلف الأطلسي فكرةَ انضمام أوكرانيا لحلفهم دون وعي مسبق بما ينطوي عليه هذا القَبول من استدراج المنطقة إلى حرب تُراق فيها الدماء.

نخلصُ من هذا التمهيد إلى الحديث عن الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيلي في عَلاقته بالجغرافيا. فالعاقل لا يحتاج إلى دليل على أنّ هذا الصراع بلغَ المنتهى الذي يتجلّى عنده الإفلاس الحضاري والأخلاقي للقوى الأوروبية والأمريكية إفلاسًا مُبينًا. فهذه القوى تتنصلُ من مسؤولياتها الأخلاقية في إحلال السِلم والسلام في منطقة الشرق الأوسط الذي شرعت في نسج خيوطه ورسم خرائطه منذ معاهدة سايكس- بيكو سنة 1916 على أقلّ تقدير.

بعد مرور أكثرَ من 75 سنةً على تأسيس دولة إسرائيل لا يزال الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يراوح مكانه، وما زالت أطراف الصراع تحتكمُ إلى نفس المنطق، وهي عاجزةٌ عن رسم أفق سياسي يفضي إلى حلّ من الحلول، أو إلى تسوية ما، يتم بموجبِها رسم حدود جغرافية يرتضيها الجميعُ، أو إلى انتصار أحد الأطراف على الآخر. لا تزال المنطقة مسرحًا لصراع مرير بين قوتَين: قوّة تبدي الاستعداد للموت (readiness to die)، وقوة تبدي الاستعداد للقتل (readiness to kill). فأمّا القوة الأولى فتستمد قوتها من عقيدة أساسها شرعية الانتماء إلى المكان؛ وأمّا القوة الثانية فتستمد قوتها من عقيدة أساسها الشعور بالتفوّق المادي العسكري.

هل عجزت أميركا وأوروبا فعلًا عن إعطاء المنطقة أفقًا سياسيًا يخرجها من منطق التقابل بين الموت والقتل، إعلاءً لمنطق التعايش وحفظًا لقيم الحياة؟ أم أنَّ هذه القوى تراهن على إبقاء الصراع محتدمًا؛ خدمةً لأهداف جيواستراتيجية لم تُبلغ بعدُ؟ متى تأملنا تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ألفينا أنّ هذه القوى تصطفّ أيديولوجيًا وحضاريًا وثقافيًا وعسكريًا وإعلاميًا وراء القوّة التي تبدي استعدادًا للقتل، أي وراء إسرائيل، المنظور إليها على أساس أنها تمثل امتدادًا للمجتمع الديموقراطي المتحضّر، على عكس القوة التي تبدي استعدادًا للموت، المنظور إليها على أساس أنها تمثل تخلّف المقاومة وتوحّشها.

في البدء، كان الغرب يجد مسوّغه الأخلاقي لتأسيس إسرائيل في مقولة: “أرض بلا شعب من أجل شعب بلا أرض”. وكانت المراهنة على التهجير الجماعيّ لطمس معالم الوجود الفلسطيني في الجغرافيا. لكن ومع مرور الوقت وجدَ العالم نفسه أمام واقعٍ لا يرتفع، واقعِ المخيمات والحواجز والأسلاك المسيّجة لحركة الشعب الفلسطيني؛ وينبثق من هذا الواقع خطابٌ فلسطيني أساسُه المطالبة بالعودة إلى الأرض. فالإنسانُ الفلسطيني المُهَجَّر لا يعرف الاستقرار في المخيمات، أو في المنفى، بل يعتبر وجودَه هناك وجودًا مؤقتًا، وكأنّه في سجن، أو في قاعة انتظار.

ظلّت سردية الإنسان الفلسطيني الحالم بالعودة سردية حيّة في النفوس، ترسم أفقًا وجوديًا أمام هذا الإنسان القابع في مخيمه المكتظ، أو في منفاه الموحِش. مع مرور الوقت، وتحت ضغط الواقع الأليم وانصياعًا وراء خطاب الواقعية، جعل هذا الإنسان يقبل بالتفاوض السياسي أفقًا لبلوغ العودة، هذه العودة التي صارت مشروطة بشروط كما تدلُّ العبارات المتداولة في الخطابات القانونية المؤطّرة للمطلب الفلسطيني. فقد أصبح مألوفًا في كل المحافل الحديث عن “العودة إلى حدود 1967″؛ ففي عبارة “إلى حدود” تقييدٌ لمطلق. والتقييد هنا يفيد القبول باقتسام الجغرافيا.

فَتَح القَبول باقتسام الجغرافيا بابَ المفاوضات، وأطلق مسلسل التسوية السلمية بين طرفَي النزاع. وقد استبشر المتفائلون بهذه المفاوضات خيرًا وهم يأملون في أن تفضي إلى سِلم نهائي يعود على سكان المنطقة: إسرائيليين وفلسطينيين، بالخير العميم. كل شيء كان يحمل على الاعتقاد بأنَّ إسرائيل، والعالم الغربي من ورائِها، بعد حصولها على اعتراف الطرف الآخر بحقّها في الوجود، ستجنح إلى السِلم فترفع الطوق المضروب حول إنسان المخيم.

حين نتحدّث عن اقتسام الجغرافيا نفكّر في صيغتَين اثنتَين؛ إحداهما تقومُ على تصور وجود دولتين متجاورتين؛ والثانية تقوم على تصور دولة واحدة يتعايش داخلها الجميع تحت سقف دولة ديموقراطية حديثة تحسن تدبير الاختلاف العقدي والديني وتحترم المقدسات. وقد كان من المفروض أن تستثمر القوى المتحضّرة الراعية لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلى رأسها أميركا، قبول الفلسطينيين باقتسام الجغرافيا لإقرار سلام عادل ودائم في المنطقة، لولا أنَّ هاتَين الصيغتين تتعارضان مع الفكرة المؤسِسة لدولة إسرائيل. وهو ما جعل هذه القوى تنخرط في مسلسل تفاوض عقيم بغرض ربح الوقت ليس إلا، وهي تراهن على الزمن لإيجاد صيغ أخرى لطمس القضية الفلسطينية.

إنَّ إسرائيل تضع الغرب، صانعَها، في مأزِق أخلاقي كبير. فبقاؤها؛ كدولة مرتبطة بهُوية عِرقية وعقيدة دينية، يشترط من بين ما يشترطه التمييزَ بين مواطنيها على أساس عنصريّ وعقدي، وهو ما يتنافى مع ما يبشّر به الغرب من قيم حضارية ديموقراطية تستوعب التعدد. فليس من شيء أكثر إفادة لمعنى الانفصام من أن يجمع العِلماني المتطرف في السياق الأوروبي بين الدفاع المستميت عن العِلمانية وبين القَبول بفكرة الدولة الدينية.

من الأسئلة الأخلاقيّة الكبرى- التي تؤرّق ذوي الضمائر الحية في السياق الغربي، وحتى داخل إسرائيل- سؤالٌ متعلّق بعقيدة إسرائيل العسكرية، هذه العقيدة التي تقوم على مفاهيم وبلاغة إمبريالية الـ19 في سعيها لتبرير رفضِها اقتسامَ الجغرافيا وقيامِها بتهجير الآخرين وإبادتهم. لقد أصبحَ تماهي السياسيين الغربيين مع إسرائيل ووقوفهم اللامشروط إلى جانبها يهدد بنسف منظومة حقوق الإنسان، كما تقرَّرت معانيها في سياق المجتمعات الغربية. إن اعتماد إسرائيل بلاغةً عسكريةً تقرّ نزع صفة الإنسان عن الآخرين بغرض تبرير تهجيرهم أو إبادتهم أصبح يجرِّئ اليمين المتطرف والقوى الظلامية في أوروبا على اعتماد لغة لم تكن، إلى عهد قريب، مستساغة في النقاش العمومي. لقد صار الوقوف مع إسرائيل ضد أعدائها يشكل ذريعة لتجريد المسلمين في السياق الأوروبي من أبسط الحقوق المكفولة للإنسان، كحقّ التعبير أو الحقّ في التظاهر، مثلًا.

إنَّ الأحداث المتسارعة في فلسطين تؤشّر على وجود تحوّلات استراتيجية كُبرى في العالم، تحوّلات تتجدد معها محاور الاستقطاب. فالولايات المتحدة الأميركية تثبت بما لا يدع مجالًا للشكّ عجزَها عن صناعة السّلام في الشرق الأوسط، وإصرارها على تذويب القضيّة الفلسطينيّة بشكل من الأشكال، قفزًا على الواقع الجغرافي القائم. وفي هذا الإصرار ما يؤكّد عجز الفكر الإمبريالي عن تمثّل واقع شعوب المنطقة تمثلًا صحيحًا. كل شيء في تصريحات المسؤولين السياسيين الغربيين حول ما يحدث في المنطقة يشي بنبرةٍ بلاغيةٍ إمبريالية تؤشّر على ضرب من الحنين إلى عالم القرن التاسع عشر، حيث كان العالم منقسمًا إلى شعوب متحضّرة قدرها التوسع، وشعوب متوحّشة في حاجة إلى من يُحضّرها بالقوة.

في خضم الأحداث المتسارعة التي تهدّد استقرار منطقة الشرق الأوسط برمته، تبرز الصين كقوَّة جديدة تُلوِّح، معيّةَ روسيا، بالقدرة على صناعة السلام، مقترحة ذاتها كحليف استراتيجي جديد للعرب ومسلمي الشرق الأوسط. لا جدالَ في أنّ المنطقة أصبحت تمثل نقطة تماسّ بين القوى الكبرى التي تعمل على تجديد محاور الاستقطاب الاستراتيجي، ولا جدال في أنها بذلك أصبحت منطقة مرشّحة أكثر من غيرها من المناطق لمزيد من العنف. ويخشى أن يكون الإنسان الفلسطيني، إنسان المخيمات، الوقود الأرخص في حروب الاستقطاب الجديدة التي بدأت رحاها تدور.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى