زلزال استراتيجية ترمب… نهایة الاستراتيجيات الأميركية

تقول بصراحة “إن أيام دعم الولايات المتحدة للنظام العالمي انتهت”
كتب رفيق خوري, في اندبندنت عربية:
العالم في نظر ترمب هو ساحة وسوق. الساحة لضربات المطرقة، والسوق للفوز في التنافس التجاري. “سلام من موقع القوة”. و”هيمنة بالإكراه” لا بالمال ولا بالقوة الناعمة.
في مقالة تحت عنوان “الاستراتيجية العظمى التبادلية” قال أورين كاس إن الرئيس دونالد ترمب لم يترجم بعد سياسة “أميرکا أولاً” إلى “رؤية متكاملة لتسوية عالمية جديدة”. لكن ترمب فعلها قبل نهاية عامه الأول في الولاية الثانية فأصدر “استراتيجية الأمن القومي” في عهده. وهي استراتيجية جاءت مختلفة وحتى مخالفة لاستراتيجيات الأمن القومي التي أصدرها الرؤساء السابقون، بحسب التقليد الأميركي. لا بل بدا ترمب كمن يطوي مرحلة دامت 80 عاماً من نظام عالمي ليبرالي ضمنته أميرکا بعد الحرب العالمية الثانية. فالاستراتيجية تقول بصراحة “إن أيام دعم الولايات المتحدة للنظام العالمي انتهت”. فلا النظام العالمي القديم بقي، ولا النظام العالمي الجديد القائم على تعدد الأقطاب والذي تدعو له الصين وروسيا يمكن أن يولد. لا نظام بل تنافس في سوق بين الكبار. ولا في ما سماها آدم بوزت “الجغرافيا الاقتصادية الجديدة” سوى زلزال ترمب الكبير “غير المعايير والنماذج والسلوك والمؤسسات عالمياً، وجعل كثيراً من البنية الاقتصادية الحالية خارج الاستخدام”.
وفي اللانظام العالمي، فإن استراتيجية ترمب تتركز على خمسة أمور، الأمر الأول هو العودة إلى “مبدأ مونرو” لعام 1823 الذي اعتبر أميركا اللاتينية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، حيث “لا نفوذ لأية دولة خارجية” في بحيرة الصيد الأميركية”. وترمب بدأ تطبيق ذلك بتهديد فينزويلا وتدمير قواربها ومصادرة ناقلات نفطها ومطالبة الرئيس نیکولاس مادورو بالاستقالة. وطلب علناً إنجاح مرشحه اليميني نصري عصفورة ضمن انتخابات الرئاسة في هندوراس الفقيرة وإسقاط المرشح اليميني الآخر سلفادور نصرالله. فضلاً عن تهديد كولومبيا، والبقية تأتي. والثاني هو دعوة أوروبا إلى مواجهة قضاياها مع روسيا بنفسها، وتحذيرها من أنها تعيش خطر “زوال حضارتها” بسبب الهجرة الكثيفة إليها، بحيث “لن تعرف أوروبا بعد 20 عاماً”.
وهذا في إطار إعلانه أن “عصر الهجرة الجماعية يجب أن ينتهي”، وتشجيعه التيارات اليمينية المتشددة في البلدان الأوروبية. وما يعمل عليه هو تسوية في أوكرانيا تهمش الدور الأوروبي وتكافئ الرئيس فلاديمير بوتين على الغزو والتسليم له بضم أربع مناطق من أوكرانيا بعد شبه جزيرة القرم، خلافاً للمبدأ الدولي الذي موجزه عدم حيازة الأراضي بقوة الاحتلال. ولم يعبأ بمواقف أوروبا وحشر أوكرانيا وقول الرئيس السابق للأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إنه على ترمب “رفض النصيحة قصيرة النظر التي قوامها التركيز على الصين وهجر أوكرانيا، لأن نصراً روسياً في أوكرانيا لن يدمر فقط مصالح أميركا في أمن أوروبا ويزيد المتطلبات العسكرية الأميركية هناك، بل أيضاً يجمع التحديات من الصين وإيران وكوريا الشمالية”.
الأمر الثالث هو إنهاء ما سمته الإدارات الأميركية السابقة “بناء الأمم” و”نشر الديمقراطية” والتركيز علی “حقوق الإنسان” في السياسة الخارجية. فلا مواعظ حول الحوكمة والسياسات الداخلية للبلدان بل العمل مع العالم “كما هو” وتقبل الأنظمة كما هي، طبعاً إذا كانت موالية للسياسة الأميركية ومفيدة لمصالحها الحيوية.
ورابعها “تراجع التركيز على الشرق الأوسط” الذي كان هدفاً تاريخياً لأميركا. والبديل من ذلك هو وضع مسؤولية الشرق الأوسط على عاتق إسرائيل ومصر والسعودية وسوريا، مع ضرب النفوذ الإيراني وعدم الاكتفاء بإضعافه. لكن هذه بطاقة ضمان لتعثر مشروع ترمب لسلام الشرق الأوسط الذي يبدأ من غزة ولبنان إلى سوريا والعراق واليمن. فالتنافس بين إسرائيل وتركيا شديد في سوريا على رغم انخراط ترمب في دعم إدارتها الجديدة برئاسة أحمد الشرع، وإلغاء العقوبات الأميركية والدولية على دمشق.
والشرق الأوسط الذي كان متروكاً للصراع بين ثلاث قوى إقليمية هي إسرائيل وإيران وتركيا لن يصبح الشرق الأوسط الجديد بمجرد حذف القوة الإيرانية من الثلاثي الإقليمي، بل يحتاج قبل ذلك إلى الدور العربي الوازن الذي تقوم به السعودية ومصر وسوريا.
والخامس هو نهاية التورط الأميركي في حروب كبيرة وطويلة مثل حرب أفغانستان وحرب العراق حيث كانت الكلفة 8 تریلیونات دولار بحسب السيناتور بيرني ساندرز، والاكتفاء بنموذج “مطرقة منتصف الليل” التي ضربت المنشآت النووية في إيران ثم فرضت وقف النار بين طهران وتل أبيب. وليس ذلك سهلاً. ففي حرب إسرائيل على غزة ولبنان وإيران أرسلت واشنطن أساطيلها وكادت تنخرط في الحرب الكبيرة. وفي كل محاولات التخفف من الانخراط في صراعات الشرق الأوسط كانت المنطقة تفرض نفسها على واشنطن. حتى متغيرات الطاقة وقلة حاجة أميركا إلى نفط الشرق الأوسط، فإنها لن تؤدي إلى الاستغناء عن الطاقة في المنطقة كجزء من “المصالح الجوهرية” بحسب التعبير المستخدم في استراتيجية ترمب للأمن القومي.
والخلاصة أن العالم في نظر ترمب هو ساحة وسوق. الساحة لضربات المطرقة، والسوق للفوز في التنافس التجاري. “سلام من موقع القوة”، و”هيمنة بالإكراه” لا بالمال ولا بالقوة الناعمة. أليست “السياسة هي التنظيم المنهجي للحقد” كما قال هنري آدامز بعد ثورة الاستقلال عن بريطانيا؟




