ديغول… عدوّ لا يكذب
كتب عبد الحميد منصوري في العربي الجديد.
يبدو جليا، ونحن في الذكرى 53 لوفاة الزعيم الفرنسي الكبير الجنرال شارل ديغول، 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، أن مقولة المفكر الألماني والتر بنيامين (1892-1940) “التاريخ يكتبه المنتصرون” ليست صادقة في كل حالاتها، فرغم هزيمة الفرنسيين النكراء في حربهم مع الشعب الجزائري الثائر (1954-1962)، وخروجهم المذلّ من ترابه الذي سالت دماء ملايين الشهداء فداء له منذ دخول جحافل أجدادهم المستعمرين في يوليو/ تموز 1830، إلا أن أكاذيبهم المؤسّسة لخرافة منح زعيمهم شارل ديغول (1890-1970) الاستقلال للجزائريين لم تُنقض، وبرغم هزيمتهم يصرّون على كتابة التاريخ بل وتزويره.
ولم يكن الأستاذ في جامعة السوربون في باريس، والمدير السابق لمركز ستراسبورغ للدراسات الجرمانية، وصاحب كتاب “الجنرال ديغول والعالم العربي”، المؤرّخ جان بول بلد، الوحيد الذي يدافع عن هذه الخرافة، حيث جاء في محلّ دفاعه عنها أن ديغول “منح الاستقلال” للجزائريين، نظرا إلى ظروف خارجية واستراتيجيات جديدة للحكومة الفرنسية، وأن موقفه هذا ارتبط برغبته بتقوية الجيش الفرنسي وامتلاك السلاح النووي، الأمر الذي حتّم عليه التفاوض مع الحكومة المؤقتة الجزائرية، وعرضه عليها ثلاثة خيارات: البقاء مع فرنسا، أو الاستقلال مع التعاون المشترك والارتباط، أو خيار الاستقلال التام.
ومن دون أن يُناقَش كلامه المتهافت المزوّر للتاريخ والطامس الحقائق، فقد كفانا المؤرخ الفرنسي، بنجامين ستورا، المختص في تاريخ الاستعمار في المغرب العربي الرد عليه، حيث أكد أن “استقلال الجزائر لم يكن ليأتي لولا استماتة الجزائريين في المعارك المسلحة”. وفنّد ستورا ادّعاءاتٍ كثيرة، تقول إن ديغول منح الاستقلال للجزائر. كما أعاد النظر في سياسة الجنرال في الجزائر في صفحات كتابه ”ديغول الغامض، اختياراته بالنسبة للجزائر”، حيث قدَّم الوجه الخفي لقرار ديغول لصالح تقرير المصير، مضيفا أن مرحلة رئاسة الجنرال كانت “الأعنف والأكثر دموية ضد الثورة الجزائرية”، وكان يشدّد في كل خطبه على فرنسية الجزائر التي لا تُناقش، وما يؤكد ذلك تمسّكه بالجزائر رغم تفريطه في 12 مستعمرة في أفريقيا جرّاء قوة الثورة الجزائرية وزخمها.
للقضاء على الثورة الجزائرية وإخماد أوارها، ضاعف ديغول عدد القوات العسكرية العاملة في الجزائر، من 450 ألفا في نهاية 1958 إلى ما يفوق 850 ألفا في نهاية 1959
وإذا أردنا أن ندحض أكاذيب المشكّكين في ثورة الجزائر وانتصارها على الدولة الاستعمارية الفرنسية، والمدافعين عن خرافة “هِبَةِ ديغول للجزائريين”، لن نجد من يفندها أكثر من شارل ديغول نفسه، فقد جاء في “مذكّرات الأمل”، وهي كتابه الذي يضم مذكراته، وصدرت طبعته العربية الأولى عن دار عويدات سنة 1971 في أكثر من 400 صفحة، “في عام النعم 1962 ازدهر تجديد فرنسا. بعد أن كانت مهدّدة بحرب أهلية. ويكاد يرهقها الإفلاس، ونسي العالم صوتها. وها هي تتخلص من المأزق”. (ص 333)، فهل يمكن لمن يعتبر استقلال الجزائر تخلّصا من مأزق كبير أن يعتبره غيرُه صاحب فضل وواهبا للاستقلال للجزائريين؟!
شملت “مذكّرات الأمل” لديغول فترة “1958-1962″، وهي الفترة التي واجه فيها الثورة الجزائرية، بعد أن عجز جنرالات جيش فرنسا في الجزائر عن مقارعة الجزائريين منذ اندلاع ثورتهم في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، واستنجاد رئيس الدولة الفرنسية حينها، كوتي رينيه، (1882 – 1962) بديغول المُنقذ بعد تمرّد جنرالات الجزائر في 13 مايو/ أيار 1958، حيث استولوا على الولاية العامة في الجزائر، وانضمّ إليهم معظم قادة الجيش الفرنسي العامل في الجزائر، وفي مقدمتهم قائد الأركان، راؤول سالان، وقائد فرقة المظلات، جاك ماسو، وغيرهما، وأعلنوا في بيانٍ، عبر الإذاعة، أنهم استولوا على الحكم بالجزائر. وبذلك سقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة، وأسّس ديغول الجمهورية الخامسة وتولّى الحكم. وحتى يكون في مستوى آمال الذين التجأوا إليه لإخماد الثورة في الجزائر، وإعادة الهدوء إليها تحت السيادة الفرنسية الكاملة، لم ينس أن يشير في صلف إلى الجزائر، قائلا “نعم … فرنسا هنا وستبقى إلى الأبد”.
هل ينتاب من قرأ “مذكّرات الأمل” لديغول شكّ في أن الجزائريين الأبطال قد انتزعوا حرّيتهم من بين أنياب الاستعمار الفرنسي
وقد بدا هذا الصلف واضحا، وهذه العجرفة جلية في بدايات مذكّراته، حيث كتب “يعدّ امتلاك الجزائر مفيدا ومستحقا لنا نحن الفرنسيين” (ص 49)، وكذلك في الصفحة نفسها “لستُ أمام وضع يقتضي حلّا ودّيا”. وقد واصل التعبير عن تشدّده وحزمه “لا يجب أن يكون هناك تهاون في الجهد العسكري” (ص 72)، “يجب البحث عن الخصم والتغلب عليه وإلحاق الهزيمة به” (ص 98)، فقد راهن ديغول، منذ بداية استلامه الحكم، على تحقيق نصر عسكري يمكّنه من قمع الثورة الجزائرية وإبادة الثوار وتصفيتهم أو إجبارهم على الاستسلام، ليرضي كبرياءه وطموحه في أن تظلّ فرنسا قوة عظمى لها وزنها واعتبارها عالميا، وقد صرّح عن تلك الرغبة صراحة في أول زيارة له الجزائر، وقد استقبله الجنرال راؤول سالان، حيث قدّم له تهانيه على المجهودات التي يبذلها لقمع الثورة وإخمادها، ثم قال له: “علينا أن نتعاون ونتحد لنقضي على هذا العصيان الذي أراد أن يذهب بعظمة فرنسا”.
وللقضاء على الثورة وإخماد أوارها، ضاعف ديغول عدد القوات العسكرية العاملة في الجزائر، من 450 ألفا في نهاية 1958 إلى ما يفوق 850 ألفا في نهاية 1959، كما أطلق يد الجنرال موريس شال ومخطّطه الجهنمي لخنق الثورة من الشرق والغرب، عبر الخطوط المكهربة والتمشيط والسحق، إلى درجة أن رئيس الحكومة حينها، ميشال دوبري، صرح في فبراير/ شباط 1959 في انتشاء: “لا بد أن يكون في مقدورنا أن نعلن الانتصار العسكرى على المتمردين في شهر يوليو المقبل”. ولكن هذه القسوة والعجرفة لم تجدِيا نفعا مع صلابة الشعب الجزائري الذي تكسّرت على صخرته كل ما أعدّته فرنسا وديغول من عتاد وعدة ومؤامرات. وقد بدا الفشل جليا على ديغول، فقد تحوّل من جنرال قاس إلى سياسي عقلاني، فقد اعترف أخيرا في مذكّرات الأمل “الحل لا يتم إلا عن طريق الاتفاق مع جبهة التحرير” (ص 106). وقال بانكسار ظاهر “أليس من الأفضل أن نتخلّى علن الجزائر التي أصبحت صندوقا للأحزان” (ص 109). لقد هوت الصخرة من عليائها وترجّل الفارس الجبّار، وتحوّلت عنده الجزائر التي سيبقى فيها إلى الأبد إلى صندوق للأحزان، سيتخلى عنه بعد أن امتلأ حزنا. وواصل انكساره قائلا “لا يمكن تحقيق نصر على الثوار، لأنهم يمثّلون الأغلبية من الجزائريين” (ص 110). وقد اقتنع أخيرا، على وقع الضربات الموجعة للثوار الأشاوس، بأنه “يترتب على السكان الجزائريين أن يقرّروا مصيرهم بأنفسهم”(ص 129).
هل ينتابُ من قرأ “مذكّرات الأمل” للجنرال ديغول شكّ في أن الجزائريين الأبطال قد انتزعوا حرّيتهم من بين أنياب الاستعمار الفرنسي الشرس، وهل ما زال لخرافة أن هذا الرجل وهب الاستقلال للجزائريين مكان بين المنصفين والعقلاء.