كتب رفيق خوري في “إندبندنت عربية”: لا حدود لأخطار حرب أوكرانيا ومضاعفاتها والفرص التي يراد لها أن تلعب دوراً كبيراً في صنع النظام العالمي، لكن الحرب الأخطر التي سلطت حرب أوكرانيا الضوء عليها هي حرب بلا قتال ولا جنود ولا دماء وخراب ومهجرين، وهي حرب أشباه الموصلات، فكل الأجهزة المتطورة المدنية والعسكرية من الطائرات إلى الصواريخ والهواتف الذكية والأسلحة المتقدمة تحتاج إلى الرقاقات الإلكترونية التي هي أشباه الموصلات، فلا شيء مهماً في أي بلد يمكن إنتاجه من دون حاجة إلى نوع من الرقاقات الإلكترونية، والبلدان اللذان ينتجان 70 في المئة من الإنتاج العالمي للرقاقات هما كوريا الجنوبية وتايوان، وهذا ما يفسر سر استمرار أميركا في حماية كوريا الجنوبية عسكرياً من أي غزو تهدد به كوريا الشمالية، لئلا تستولي على الرقاقات وصناعتها، وما يفسر أهمية تايوان بالنسبة إلى كل الإدارات الأميركية والاستعداد لحمايتها من غزو صيني خوفاً من وقوع الكنز الثمين فيها من أشباه الموصلات في يد بكين التي بدا رئيسها شي جينبينغ يلوح بالعمل العسكري لإعادة الجزيرة إلى البر الصيني.
روسيا تعاني حالياً من النقص في الحصول على أشباه الموصلات لإنتاج الصواريخ وحتى من أجل الطائرات المدنية، والصين تتعرض لنوع من الحصار الأميركي للحد من قدرتها على استيراد الرقاقات، والكونغرس الأميركي يدرس مشروع قانون يخصص 70 مليار دولار لتنشيط صناعة الرقاقات في أميركا إلى جانب شراكاتها مع كوريا الجنوبية وتايوان، بحيث تنتج 30 في المئة من الإنتاج العالمي.
أما الصين فإنها خصصت بالفعل 100 مليار دولار للتقدم في إنتاج الرقاقات خشية حرمانها من شرائها، وإذا كان مجلس الشيوخ الأميركي كشف في تقرير له أن “انقطاع الرقاقات عن السوق الأميركية لمدة عام يؤدي إلى خسارة الناتج القومي 3.2 في المئة وملايين فرص العمل، فإن تأثير الانقطاع في السوق الصينية أكبر وأخطر بكثير، ذلك أن سوق الرقاقات بلغة المال وحدها تساوي نحو 600 مليار دولار سنوياً، وهي بلغة الحسابات التكنولوجية والصراعات الجيوسياسية أهم من سوق الأسلحة والتحالفات، فالعالم يبدو في مرحلة اللايقين حيال مرحلة ما بعد حرب أوكرانيا، لكنه في أعلى نسبة من اليقين بالنسبة إلى مفاعيل الرقاقات الإلكترونية ومضاعفات غيابها. وحين نصل إلى التكنولوجيا الدقيقة فإن القوة لا تفيد وضخامة البلد لا تفيد وقسوة حكامه لا تفيد، لأن ما يفيد هو الخبرة والذكاء لدى صانعي الرقاقات وسواها من الذين صارت التكنولوجيا حياتهم، ولا فرصة أمام أهل الأيديولوجيا لمنافسة أهل التكنولوجيا، فكيف إذا كنا في عالم التناقض بين عولمة التكنولوجيا وقومية السياسات؟ وكيف إذا صار زرع رقاقات إلكترونية في دماغ الإنسان مشروعاً صناعياً وتجارياً يعمل له رجال أعمال مثل إيلون ماسك صاحب معامل سيارات “تيسلا” الكهربائية و”تويتر”؟
ويقول أستاذ العلوم السياسية باري بوزن إن “مرحلة ما بعد الثورة الصناعية نقلت الجيوش من تسليح الرجل إلى جعل الرجل يخدم السلاح، إذ صارت الأسلحة أهم من الرجال”، فلا جيش اليوم يستطيع أن يتخلف عن المهارة في الحرب السيبرانية، وليس قليلاً عدد الخبراء الذين يرون أن الرقاقات الإلكترونية ستحدد المعالم الجيوسياسية للعقود المقبلة كما رسم النفط المعالم الجيوسياسية لعقود طويلة.