جنين ورحلة البحث عن دور للسلطة الفلسطينية
كتب معين الطاهر في صحيفة العربي الجديد.
خطأ آخر ترتكبه السلطة الفسطينية، تتجاوز فيه جميع الخطوط الحمراء التي تجرّم الاقتتال الداخلي وتحرّمه، بعدما حاصرت مخيّم جنين منذ أكثر من أسبوعين، وشنّت حملتها الأمنية عليه، تحت ذريعة ملاحقة “الخارجين على القانون”، و”ضبط الأمن والنظام”، و”إنهاء حالة الفوضى والفلتان الأمني”، لمنع تكرار ما سمّته “سيناريو غزّة”، وكأنّها بهذا الوصف تقدّم للعدو مبرّراً لشنّ حرب الإبادة على القطاع، ولاحقاً على الضفة الغربية. بذلك انتقلت السلطة الفلسطينية من الصمت المطبق، والعجز الذي لازم موقفها منذ بدء “طوفان الأقصى”، إلى محاولة استرداد دورها عبر إقناع إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية بقدرتها على إنهاء بؤر المقاومة في الضفة الغربية، مع وعد بتأهيلها لأداء دور مماثل في غزّة، وهذا يضع السلطة أمام خيارين أحلاهما مرّ كالعلقم أو أشد؛ فهي إن نجحت تكون قد فتحت الباب أمام صراع داخلي مرير يضعفها ولا يقوّيها، ويجعلها بيدقاً بيد الاحتلال، ورهينةً لمخطّطاته وأطماعه، بينما يعزّز فشلها الرؤية الصهيونية بعدم الحاجة إليها بعدما استنزفت دورها، وتوسّع الاستيطان في ظلّها.
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية، ساد اعتقاد لدى السلطة أن مدّة الحرب لن تتجاوز بضعة أسابيع، وأن عدم وجودها في القارب ذاته مع حركة حماس سيعيدها إلى غزّة، وشجّعتها على ذلك كلمات معسولة من الإدارة الأميركية عن حلّ الدولتَين، ما لبثت أن تراجعت إدارة جو بايدن عنها بعد موقف بنيامين نتنياهو الرافض لها ولعودة “حماس” أو عبّاس إلى غزّة. تغيّر الهدف الأميركي من تمكين السلطة في مواجهة “حماس” وإعادتها إلى غزّة، إلى تأهيلها وإصلاحها، وبعد أن ينجز ذلك خلال أعوام ثلاثة يمكن البحث عن دور لها، متجاهلةً حقيقة أن فساد السلطة وترهّلها يعود أساساً إلى الاحتلال الذي يمسك مقاليد الأمور كلّها، فيمنح من يشاء ويحجب عمّن يشاء.
وافقت “حماس” على المشاركة في لجنة الإسناد المجتمعي بعد أن كانت تفضّل المشاركة في حكومة وفاق وطني
رفض الرئيس محمود عبّاس المبادرات كلّها، التي دعته إلى تقوية الموقف الفلسطيني وتعزيز الوحدة الوطنية، عبر الدعوة إلى قيادة فلسطينية موحّدة، وإعادة بناء منظّمة التحرير، وضمّ حركتَي حماس والجهاد الإسلامي إليها، وتشكيل حكومة وفاق وطني، وعقد اجتماع للأمناء العامّين، كما فعل في مواجهة صفقة ترامب نتنياهو، معتقداً أن خلاصه وخلاص السلطة لا يكون إلّا بالتحلّل من كلّ ارتباط مهما كان نوعه، في المعركة الدائرة على أرض فلسطين. فقد الرئيس دوره مع شعبه في الوقت ذاته الذي فقد فيه تأثيره في الحدث، وحلّ إصلاح السلطة وإعادة تأهيلها ورسم دورها بديلاً من وحدة الأرض الفلسطينية المحتلة والنظام السياسي ودحر الاحتلال.
مع استمرار حرب الإبادة الجماعية، بدأت الدوائر الأميركية والعربية والصهيونية تبحث في ترتيبات ما بعد الحرب، وسط تخبّط إسرائيلي في ما يتعلّق بشكل الإدارة المزمع إقامتها في غزّة، ولكن ضمن ثوابت اعتُبِرت ركائزَ للسياسة الإسرائيلية، مثل إقامة إدارة محلّية تدير شؤون السكّان، مع خلاف على شكل تبعيتها لإدارة عسكرية أو مدنية، واستبعاد السلطة في رام الله و”حماس” من المشاركة فيها، واستمرار احتلال الجيش الإسرائيلي أجزاءَ واسعةً من غزّة، وفصلها عن الضفة الغربية، وعدم السماح باستمرار نظام سياسي فلسطيني واحد في الأراضي المحتلّة منذ عام 1967. فشل الاحتلال في إيجاد إدارة عميلة مرتبطة به، ولم تنجح السلطة الفلسطينية في إثبات حضورها، وأدركت “حماس”، وسط الضغط الشعبي وحرب الإبادة، أنها لن تتمكّن من الاستمرار في حكم غزّة منفردةً، لكنّ غزّة لن تُحكم من دون مشاركة أو غطاء منها، مهما كان حجمه وطبيعته ورمزيته.
بناء على هذه المعطيات، بدأت السيناريوهات المحتملة تتشكّل، فبرزت فكرة تشكيل قوة عربية ودولية لإرسالها إلى غزّة، لإكمال ما بدأه الجيش الإسرائيلي من تصفية المقاومة ونزع سلاحها، إلى السعي لتشكيل لجنة لإدارة غزّة بمعزل عن حكومة رام الله، تشرف على قوة شرطية لحفظ الأمن، ولها ميزانيتها المستقلّة عن السلطة الفلسطينية، وتتابع مع المانحين عملية إعادة الإعمار، مع أفكار حول تخصيص منطقة واسعة في سيناء، بما فيها مطار وميناء لتشغيل الغزّيين، بحجة مساعدتهم في تأمين عمل لهم في ظروف حياة أكثر إنسانية، إلى أن تُرفَع أنقاض غزّة ويُعاد إعمارها، وهو ما سيستغرق أعواماً طويلةً، الأمر الذي سيقود إلى تهجير نحو مليون فلسطيني من غزّة إلى سيناء، بما يذكّر بمشروع جونستون عام 1955. لجنة إدارة غزّة ستكون بمنزلة “حكومة” موازية لحكومة رام الله، ولا تربطها بها أيّ صلة سياسية أو تنظيمية أو إدارية، تتألّف من شخصيات مستقلّة أو تكنوقراط، لا ينتمون إلى حركة حماس أو إلى السلطة الفلسطينية، وتبدأ عملها في ظلّ الاحتلال.
جوهر فكرة لجنة إدارة غزّة فصلها عن الضفة، لكن دُعاة هذه الفكرة أدركوا أنها لن تحوز الشرعية الكافية لممارسة عملها وأداء مهماتها من دون غطاء سياسي رمزي من حركتَي فتح وحماس، لذلك اقتُرِح تشكيل هذه اللجنة بمرسوم من الرئيس عبّاس، وبغطاء رمزي من حركة حماس، على ألّا يكون أعضاؤها من أبناء الحركتَين، وقد علّق صديق بأن الرئيس (في هذه الحال) سيكون عند توقيعه المرسوم بمنزلة ذكر النحل، ينتهي دوره السياسي بتشكيل اللجنة.
وافقت حركة حماس على المشاركة في اللجنة بعد أن كانت تفضّل المشاركة في حكومة وفاق وطني، استجابة للضغط الشعبي، وللخلاص من حرب الإبادة الجماعية وسياسة التجويع المستمرّة. وفي الأساس، لأن مشاركتها (حتى إن انحصرت في مساهمتها في اختيار أعضائها) تعني إبقاء نافذة مفتوحة لعملها السياسي مستقبلاً، ومقاومة محاولات تصفيتها ودعشنتها. أمّا الرئيس عبّاس، فاعتبر ذلك مؤشّراً إلى بداية تغيّر في الموقف الأميركي منه، ومن دوره المفترض، لكنّه اعتبره غير كافٍ، ويمكن تطويره نحو دور أكبر ومنفرد، لذا فإنه ما زال متردّداً في توقيع مرسوم اللجنة التى أصبح اسمها “لجنة الإسناد المجتمعي”، على الرغم من الضغوط المصرية، ونجاح الاجتماعات بين حركتَي حماس وفتح في القاهرة، وإعلان حركة حماس أنها تنتظر مرسوم “السيّد الرئيس”.
أصاب عبّاس في إدراكه مخاطر لجنة الإسناد المجتمعي بصيغتها الحالية، لكنّه ارتكب خطيئة كُبرى في طريقة تصدّيه لها
يدرك عبّاس أن توقيعه مرسوم تشكيل اللجنة يعني تشكيل حكومتَين أو إدارتَين متوازيتَين في فلسطين، وأنه لن يكون له أيّ صلة عملية بحكومة غزّة، حتى لو اقتُرح عليه أن يتولّى رئاسة اللجنة أحد المقربّين منه (زياد أبو عمرو)، كما أنه لا يريد أن يبدو أمام الحكومة الإسرائيلية وإدارة ترامب في المركب ذاته مع حركة حماس، ويعتقد أن التطوّرات السياسية والعسكرية، وفوز ترامب في الانتخابات، وإدراك الإدارة الأميركية أهمّيةَ توفيره غطاءً للجنة إدارة غزّة، سيمكّنه من إقناعها بتسليمه مقاليد الأمور في غزّة والضفة، خصوصاً أنه يدرك أن نجاح فكرة لجنة إدارة غزّة سيشكّل نموذجاً لما يمكن أن تقوم به الحكومة الإسرائيلية مستقبلاً في الضفة الغربية، عبر إنهاء السلطة الفلسطينية، وتأسيس إدارات منفصلة للمدن الفلسطينية، لتحلّ روابط المدن بديلاً من تجربة روابط القرى الفاشلة في منتصف السبعينيّات.
أصاب الرئيس محمود عباس في إدراكه مخاطر لجنة الإسناد المجتمعي بصيغتها الحالية، وفي عدم الانصياع لها، لكنّه ارتكب خطيئة كُبرى في طريقة تصدّيه لها ومعالجة نواقصها. الحلّ الأمثل يكون بتأسيس قيادة موحّدة، وتشكيل حكومة وفاق وطني تضمّ الطيف الفلسطيني كلّه، وتستعيد غزّة بعد دحر الاحتلال، وتنهض بواجبات إغاثتها وإعادة إعمارها، وتُخضِع أيّ لجان تُشكّل في غزّة لولايتها. لكنّ الرئيس اختار طريقاً مغايراً لذلك كلّه، إذ اعتقد أن بإمكانه البناء على الإشارة الأميركية بمنحه دوراً في تشكيل لجنة إدارة غزّة، بإظهار تمايزه، وإشهار خلافه مع المقاومة، ومحاربتها في الضفة الغربية، بدءاً من مخيّم جنين، معتقداً أنه إذا تمكّن من فعل ذلك فسيكون مؤهّلاً، وبشكل منفرد، لإدارة غزّة، إضافة إلى إبعاد فكرة إنهاء السلطة في الضفة الغربية مؤقّتاً. لكنّه بذلك يغادر قارب الوحدة الوطنية إلى مركب الاقتتال الداخلي، ويخرج من دائرة الانحياز إلى شعبه إلى الانحياز إلى صفّ العدو، المستمرّ في مخطّطاته لضمّ الضفة الغربية، وتهجير ما يمكنه من أهل فلسطين.