جنوباً وشمالاً: صاحب الأرض لا يُخطئ بوصلته

كتبت سجود عوايص, في “الأخبار” :
صباح السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير الحالي، كان الانتظار سيّد الموقف في منطقتين في الشرق الأوسط المضطرب: جنوباً حيث احتشد أهالي الجنوب أمام البلدات اللبنانية التي احتلها الكيان واحتفظ بها لستين يوماً بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وشمالاً حيث احتشد الفلسطينيون في قطاع غزة بانتظار الإعلان عن انسحابٍ إسرائيلي كامل من محور نتساريم، يُفسح الطريق أمامهم لعودة مرتقبة.
في كلا المشهدين، تصارعت مظاهر مختلفة ومفاجئة؛ في الجنوب اللبناني كان الاحتلال الإسرائيلي يسرّب بالقطّارة ومنذ مدة أنباء عزمه البقاء في مواقعه، بعض الأنباء ارتبطت بمددٍ زمنية، بعضها الآخر وصفت البقاء بـ«الطويل»، بعضٌ آخر زخرفته بالمبررات والحجج التي لا تنتهي ومزاعم الأمن الذي لا يعرف الإسرائيليون طعماً له سوى بإفناء غيرهم وتهجيره، وآخرها كان الإعلان عن اتفاقٍ مع الراعي الرسمي لإرهابهم -الولايات المتحدة- على تمديد البقاء لبضعة أيام، أو لبضعة أسابيع، وكما الحال دائماً باب التقدير يظلّ مفتوحاً لمزاجية الإسرائيلي ومخاوفه.
على الطرف الآخر، كان أهالي الجنوب، نساءً ورجالاً وشباباً وعجائز، يحملون أمتعتهم في خط عودة لا يتوهون عن نهايته، صامّين آذانهم وقلوبهم عن المداولات السياسية والتصريحات الحكومية ومناشدات «اليونيفيل» ودعوات التحذير والتريّث والقلق، مصمّمين على العودة حتى لو عنى ذلك مواجهة المحتل بدباباته ورصاصه ونيرانه، وهو ما كان، فارتقى منهم 26 شخصاً من بينهم ست نساء، وجرح حوالى 150 شخصاً من بينهم 14 امرأة و12 طفلاً.
الجراح والدماء التي نزفت في طريق اللبنانيين لم تعن بالنسبة إليهم إنذاراً للتراجع بقدر ما ذَخّرت عزيمتهم للإقدام وتحقيق العودة، فاستبسل المزيد من نسائهم وأطفالهم وشبابهم عُزّلاً لا يحملون إلا متاعهم ورايات مجدهم في مواجهة الدبابات والمجنزرات، حتى دخلوا 15 بلدةً في يومهم الأول، دخول الفاتحين المحررين، ثم استكملوا عزمهم مدفوعين بمن ساندهم من أبناء البلاد، وكتائب جيشها، هاتفين للبلاد والأرض، في تأكيدٍ على رابطٍ لا ينفصم تحت وطأة اتفاقٍ أو سلاحٍ أو تهديد.
بهذه العزيمة الشعبية تقلّص وجود الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وتراجعت دباباته وآلياته عن مداخل عددٍ من القرى والبلدات ومراكزها، فيما يُحبّ أن يطلق عليه المحتل «إعادة انتشار» تهيّباً من انكسار الهزيمة، في تأكيد المؤكد من انسحابه، مبرراً تراجعه بأنه تمكين للجيش اللبناني وإبعاد لكتائب حزب الله من الجنوب.
ثمة رسائل عدة في الحراك الجنوبي الأخير، والمتواصل، من بينها؛ أن إلحاح صاحب الأرض في طلب أرضه يفوق حاجة السياسي إلى التماهي وحاجة المحتل إلى مبرر، وأن الرابط بينه وبين أرضه لا ينفصم بهدم المنزل وتجريف المكان، بل هو متجذر في أعمق جذور الأرض، تناديه فيجيبها في حال الوقت، وأن المقاومة التي تقف درعاً في مواجهة المحتل لحماية الأرض وصاحبها هي ذاتها الفكرة والمبدأ والوسيلة التي يقف صاحب الأرض من أجلها مدافعاً عن مقاومته، رافعاً رايتها ألّا تسقط، هُنا نستطيع القول: أثمرت المقاومة ليمونها.
لا يختلف الحال كثيراً في شمالي قطاع غزة، هُناك حيث لملم السُكان حاجاتهم صبيحة الـخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير واحتشدوا أمام الخط الفاصل مع محور نتساريم وشارع الرشيد في انتظار تأكيدات الأجهزة الحكومية في قطاع غزة بانسحابٍ إسرائيلي كامل وفقاً لتعهدات الصفقة وانطلاق مسيرة العودة إلى الشمال.
هنا أيضاً تلاعب المحتل بالوقت والزمان والمكان، فتسلّم أسيراته ثم نقض عهده متراجعاً عن انسحابه، منذراً ومحذّراً بالنار والرصاص، بل ومطلقاً النار على المدنيين المستعدّين لسباق العودة فأوقع بينهم الشهداء والجرحى، بينما تلاعبت منظومته الإعلامية بهم مراتٍ ومراتٍ مؤكدةً تدمير المدمر في الشمال واستحالة العيش فيه وعبثية العودة إليه.
في الشمال كما في الجنوب، تسند المقاومة جمهورها ويسند المواطن مقاومته، ليُضرب موعد العودة صبيحة السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير، في مشهد عودةٍ آخر يتقزّم المحتل أمامه من جديد، متسائلاً عن نصره الذي فشل في اختراق وعي العائدين وتثبيت الاحتلال والدمار والتهجير ضريبة صمودٍ ومقاومة، ومتبصراً في وجوههم الباسمة المستبشرة بغيظ، فجميعهم بالنسبة إليه أعداء، كان يجب إفناؤهم أو كسر عيونهم أو نزع ارتباطهم بأرضهم.
في رمزية المشهد هُناك الكثير، ففي شمالي غزة وجنوبي لبنان تعيش الفئة الأكثر إقصاءً، قصداً أو سهواً، من الدعم الحكومي وما دون الحكومي، وتتركز كثافة سكانية هي الأكثر فقراً، وتهميشاً اقتصادياً وتعليمياً وخدماتياً، فيما يبدو للرأسماليين وصنّاع السياسات الاقتصادية معيقاً أمام التغيير والتدافع، فالجائع لا يحرّر وطناً، والوطن بلا مساحةٍ في أذهان المهمشين، لكن في شمالي غزة وجنوبي لبنان، الجائع والنازح والمشرّد هو الأقدر على تحرير وطنٍ بأكمله، وفك أسر ذهنيات مغيّبة خاضعة.
في الشمال كما الجنوب، العودة آخر ما يريده المحتل في دعاية نصره، والعودة الحرة آخر ما يجتنبه، والزحف الشعبي أكثر ما يخشاه، فكيف إذا كان إلى حيث راهن طويلاً على أن «الدمار لا يُمكن أن يُعمر» فإذا بالدمار يزهر.
أراد الاحتلال وأعوانه وحلفاؤه والراقصون في حلبته خاتمة مختلفة يزهون بها، في لبنان سيطرة على حيّز الأرض والمكان تُستطال بالتبرير حيناً والدعم الأميركي حيناً آخر، بينما يتم تفكيك المقاومة في الوعي واللاوعي حتى تغدو أرشيفاً ومثلاً لكل من أراد الوقوف بوجه إسرائيل فابتلعته. وفي غزة أرادوها عودة خجولة مفككة حزينة وبائسة ترى الأطلال فتنتكس على عقبيها لاعنة المقاومة وجندها ومطلقةً لعنان التهجير ساقيها، فإذا بالعودة وأهلها، شمالاً وجنوباً، تطيح بهم وبأوهامهم من جديد.