رأي

جدّد وعيك!

كتب طالب الرفاعي في القبس

ن زاوية ما، تظهر أحداث غزة بوصفها منعطفاً عالمياً للفكر الإنساني، وأنه يجب النظر إلى ما حدث ويحدث منذ السابع من أكتوبر بوصفه مادة فكرية إنسانية جديدة وعميقة لتناول المفكّرين، والفلاسفة، والكتّاب، والإعلاميين، والصحافيين والمثقفين، مثلما هي مادة حدث يومي لشعوب العالم أجمع، وعلى اختلاف أجناسهم ومذاهبهم ومستويات وعيهم!

منذ اليوم الأول وأنا أكاد لا أصدّق المشاهد الحيّة والمرّة والمرعبة على شاشة التلفزيون، فالطيران الإسرائيلي وحده يحتل السماء، ومنها يقذف بحمم الموت: قنابل ذكية، وعنقودية، وفراغية، وقنابل الرائحة الكريهة، وقنابل الانفجار الهوائي. وجميع هذا ينصب على رؤوس نساء وأطفال وشيوخ، أناس عزّل في شققهم وأحيائهم وأسواقهم، ووصل الأمر إلى قصف المُستشفيات ودور العبادة!

واضحٌ تماماً أن العالم ما عاد نفسه! العالم تغيّر منذ صبيحة السابع من أكتوبر، فأحداث غزة كانت شرارة سحرية عجيبة انطلقت بين شباب العالم! حدثٌ مهولٌ لفت نظر الشباب، وأخرجه من غفلة وروتين لحظته، وقذف به إلى قضية تحرر وطني، وإلى معاينة ومعايشة وحشية إنسانية غير مسبوقة!

حرب غزة أزاحت باقتدار حرب أوكرانيا، فالعالم كان يُدرك أن حرب أوكرانيا كانت في صلبها حرباً بين أميركا وروسيا على أرض أوكرانيا، وكانت ضمن سيناريو الحروب المعروفة في أوروبا، لكن حرب غزة المفاجئة جاءت مختلفة، تُضاهي وتتجاوز أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمهاجمة مركز التجارة العالمي في نيويورك!

حرب غزة أجبرت العالم على المجيء إلى عقر دارها، وأجبرته على الخضوع لحدثها، وكان البعض مُجبراً نزع أقنعته، والظهور بعريٍ فاضح! وحدها حرب غزة وضعت العالم أجمع في منخل، وهزته، ولم تزل، لذا كشفت لنا وجوهاً عالمية معروفة، لكننا صرنا نعرفها اليوم بشكل مختلف! أسقطت الأقنعة عن الكثيرين، وقدّمت وجوهاً مشرقة جديدة لبشر لم نكن نظن بهم هذه الشجاعة، وهذه الإنسانية الرائعة!

منذ السابع من أكتوبر، والعالم يعيش لحظات قاسية ومدمّرة ومتجددة بأحداثها، صحيح أنها مليئة بالعنف، والقتل، والوحشية، إلا أن الصحيح أيضاً أنها كشفت حقيقة السياسي القاتل، السياسي المتلوّن، المجنون، الذي يعمل بسياسية الأرض المحروقة، والذي يكذّب حقيقة الواقع وواقع الحقيقة مصدّقاً أكاذيبه الخاصة!

فجأة، صار الشباب حول العالم يبتكر أساليبه للتعبير عن موقفه الإنساني النبيل ووقوفه إلى جانب الحق الفلسطيني، وإلى جانب الطفل والمرأة والعجوز والأرض، وبالتالي إلى جانب غزة والقضية الفلسطينية! وإذا كان ما تفعله إسرائيل بجنون حقدها شيئاً فوق الخيال. فإن هذا الفوق الخيال، هو ما لفت نظر العالم.. فشباب العالم لم يكن يعرف وعد بلفور، ولا عاش نكبة 1948، ولا حتى ما تعنيه نكسة الـ1967، لكنه الآن، والآن فقط، وعن طريق حرب غزة، ووسائل التواصل الاجتماعي، عرف حقيقة جديدة، ورواية جديدة مقنعة، وبالتالي أسقط الرواية الإسرائيلية، والرواية الإعلامية الغربية. وهل أكثر دلالة من قيام طلاب جامعة هارفارد الأميركية الأشهر بخطّ أسماء آلاف الشهداء الفلسطينيين على مداخل الجامعة! وهل كان أحدٌ سيصدّق هذا قبل أشهر قليلة!

الثمن كان غالياً على الفلسطينيين، وعلى الإنسانية. لكن الآن، والآن فقط عرف العالم حقيقة وحق الشعب الفلسطيني، والرواية الفلسطينية، والآن، والآن فقط أصبح لقضية فلسطين الآلاف الذين ينطقون بها، ويدافعون عنها، وما كان هذا ليكون لولا حرب غزة!

لقد جددت حرب غزة وعي العالم، ومنْ لم يتجدد وعيه الإنساني، فعليه أن يعيد النظر في فكره!

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى