تعز وعدن مفتاح استقرار اليمن
كتب مصطفى النعمان في صحيفة إندبندنت عربية.
اليوم أرى من اللازم طرح قضية تعوق كل مساعي التوصل إلى صيغة حكم متوازن وفعال، وفي الوقت ذاته فإنها تخلق توتراً بين مساحتين جغرافيتين كبيرتين تنعكس آثاره على استقرار البلاد كلها. والمنطقتان كانتا، وأظنهما لا تزالان، الأقرب عاطفة وامتزاجاً أسرياً وجغرافياً وثقافياً، وأقصد تعز وعدن خصوصاً وجنوب اليمن عموماً.
كانت عدن هي الملجأ الذي فر إليه معارضو حكم الأئمة في الأربعينيات وعاشوا فيها معززين مكرمين ومحاطين برعاية أبناء المدينة. وفيها تشكل حزب الأحرار بزعامة النعمان والزبيري، وكان نواة المعارضة المعلنة على نظام الإمام في صنعاء، ثم أنشأ فيها الأستاذ النعمان “كلية بلقيس” بعد أن وصل إلى إدراك أن التعليم وحده هو طريق الخلاص الوحيد من كل مساوئ المجتمع.
وفي تعز، وغيرها من مدن شمال اليمن، عاش واستقر كثر من أبناء عدن وجنوب اليمن هرباً من سلطة الاحتلال البريطاني وعاد بعض منهم حكاماً بعد خروج المحتل في الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1967.
لم يشعر اليمني الشمالي بالغربة في الجنوب، وعمل كثير منهم في كل الأنشطة المدنية من دون تمييز ولا تعسف. وفي الشمال عملت أسر يمنية جنوبية في التجارة والوظائف العامة من دون أن يفكر أحد للحظة بأنهم مجرد ضيوف قادمين من خارج حدود الجغرافيا اليمنية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد تداخلت الأسر والزيجات من أقاصي الجنوب إلى أقاصي الشمال، وبالذات مع تعز، وترعرعت أجيال لم تتنكر لهويتها اليمنية، حتى بين الذين ينادون بالانفصال بين الشطرين.
فما الذي حدث ولا يزال؟
الأمر، من وجهة نظري تجاوز كل حدود الرغبة في التخلي عن الهوية اليمنية، وأنا المؤمن بحق أي يمني جنوبي أو شمالي في التعبير عن مشاعره ومواقفه السياسية من الوحدة اليمنية حتى وإن بلغ التطرف أقصى مداه بمطالبة البعض باستعادة الدولة في الجنوب. وهذه القضية لا تستدعي أخلاقياً الشطط والتعصب والتعسف والكراهية ضد الآخر. وهي تتجاوز كل حدود العقل بالحديث المتكرر جهراً وسراً عن أن أبناء تعز خصوصاً، والشمال عموماً، هم أسباب كل السوء والأخطاء والقتال والصراعات التي وقعت في جنوب اليمن.
في الواقع إن عوامل كثيرة أسهمت في تصعيد أجواء الكراهية والعداوة تجاه الآخر الشمالي عموماً، وأبناء تعز على وجه الخصوص، على رغم أنني أجزم بأن ليس في تعز خصوصاً، واليمن عموماً، من يرى في أبناء عدن وجنوب اليمن عدواً له ولا يمكن أن أسمع أن أحداً انتقص من كرامة ومكانة وحقوق أبناء جنوب اليمن. وأنا هنا أتحدث عن المواطن البسيط وليس عن الفعل السياسي الآني.
ربما يكون صحيحاً أن الدعوة إلى إنكار “يمنية” الجنوب والقول إنه لم يكن يوماً جزءاً من اليمن الكبير، ليست وليدة اللحظة. وهي دعوة قديمة اقتنع بها وتبناها عدد من سياسيي جنوب اليمن. ولكنها لم تكن يوماً رغبة الغالبية. أقول هذا بقناعة كاملة.
ومن الصحيح أيضاً أن أحداً لا يمكنه إنكار السياسات الكارثية التي مورست بعد حرب صيف 1994، وما رافقها من تصرفات تعسفية للسلطة حينها تجاه كل من عارض الحرب عموماً، شماليين وجنوبيين، وعلى وجه الخصوص المنتمين إلى الحزب الاشتراكي الذي كان يمثل السلطة في جنوب اليمن ووقع على اتفاقات الوحدة اليمنية. وفي الوقت نفسه لكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن يمنيين جنوبيين كانوا من قادة ومؤيدي حرب 1994 لأسباب مرتبطة بصراعاتهم في الماضي، وهنا ليس مجال الحديث عنها.
في السياسة، من السهل نقل مسؤولية كل فشل للسلطة، سواء كانت رسمية أو غير ذلك، إلى أطراف خارجية. وهكذا ترافقت الدعوة في الجنوب إلى الانفصال عن اليمن مع رمي كل اللوم على تعز حجراً وبشراً. ولاقى الأمر هوى عند دعاة إنكار يمنية الجنوب، وتم رفع سقف الكراهية إلى منسوب غير مسبوق بلغ حد المطالبة بإخراج كل من ينتمي إلى تعز من عدن. وبالفعل فقد جرت حملات قاسية ضد شماليين، تحت سقف مبررات أمنية كلها كانت خارج إطار القانون والعدالة.
إن ما يدفعني إلى تناول هذه القضية هو ما شعرت به خلال الرحلة القصيرة إلى تعز، والحجرية تحديداً، ومنحني الافتراق عن الموكب الرسمي والسفر منفرداً بعيداً من الإجراءات الأمنية والسير البطيء خلف المسلحين، فرصة ثمينة للتعرف على العوائق التي أفرزتها الحرب وقطعت أوصال البلاد وروابط القربى والتاريخ بين اليمنيين.
لقد وجدت عند التأمل أن الفرص الضائعة على الأطراف اليمنية، حتى تلك التي تنادي بانفصال جنوب اليمن، هي نتاج جهل وعدم نضج سياسي. ولو أن الأوضاع في تعز وعدن، خصوصاً، استقرت وتم التوصل إلى تفاهمات إنسانية بعيداً من السياسة، وفتح مجالات الاستثمار والعمل والعيش الآمن الكريم، لعاد الفارون خارج البلاد ليسهموا في خلق نموذج قابل للحياة هو وحده القادر على مواجهة مشروع “السلطة” في صنعاء.
إني أخشى أن يترسخ في اليمن ما حذرني منه نبوءة والدي في 1987 بأن البلد صار “مستنقعاً لن يجف”. ومن هنا على كل عاقل محب لليمن الواحد أو حتى اليمن المجزأ أن يسهم في استعادة السلم الاجتماعي والعلاقات الإنسانية بين أبناء تعز مع إخوانهم في عدن وكل الجنوب.
وإني على ثقة بأن ذلك سيخلق لكل الأطراف مصالح اقتصادية هي الكفيلة بالتخفيف من معاناة الناس، وحتماً بعدها سيعود اليمنيون من منافيهم الإجبارية إلى مدنهم وقراهم ليعيشوا ويستقروا ويعملوا.