تركيا في تسامحها مع خصومها الدوليين والأسد
كتبت سميرة المسالمة في “العربي الجديد”:
تبقى حالة السلم أولوية بين الدول التي تحكمها مصالح شعوبها واستقرارهم، وانسياب علاقات التعاون التي تؤسّسها المصالح المتبادلة بينها، سياسية كانت أم اقتصادية، تعود بالفائدة على الشعوب واقتصاداتها. هذه حقائق لا يمكن التعامي عنها في أي مكان وزمان تتأسس عليها العلاقات الدولية البينية الطبيعية، ما يجعل أي جنوحٍ إلى السلم مرحباً به وبنتائجه، ومنه ما بدا خطّاً واضحاً في سياسة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حين عاد إلى منطق الصفر مشكلات مع دول الخليج العربي (السعودية والإمارات)، ومن ثم مصر، في محاولةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد بدا في أصعب مراحله منذ منتصف التسعينيات، حيث تزامن تحسّن مستوياته مع صعود نجم أردوغان سياسياً، بعد تولّيه رئاسة بلدية إسطنبول 1994، وصولاً إلى رئاسة البلاد.
وحالة المصالحة التي يسعى إليها أردوغان مع دول عديدة تأتي أيضاً في سياق السعي إلى وضع حد للصراع مع معارضته في كسب أصوات ناخبيه، وسحب ورقة اللاجئين السوريين منهم عبر فتح باب الحوار مع النظام السوري، والتقارب معه لما يحقّق له غايتين أساسيتين: الأولى أنه يمكنه استخدام النظام السوري لمحاصرة الوجود الكردي في الشمال، وذلك بديلاً عن عملية تركية عسكرية، روّجها خلال العامين الماضيين، وسحبت روسيا والولايات المتحدة فتيلها عبر رفضهما إعطاء الضوء الأخضر له. الثانية، تتميز بتحقيق مشروع إعادة اللاجئين السوريين إلى داخل الحدود السورية بالتوافق مع النظام السوري، وهذا يعطي للعملية غطاءً شرعياً يتمثل بأنه جرى بالتوافق مع حكومة دمشق، وضمن اتفاقاتٍ سيعلن عنها خلال اجتماعات أستانة اللاحقة، ما يخفّف الضغط الشعبي التركي الرافض الوجود السوري في تركيا، وفي الوقت نفسه، يحقق مشروع التغيير الديمغرافي في المنطقة بزرع حزام عربي يحيط بحدوده، وبما لا يتعارض مع رغبة النظام في انهاء هذا الملف، ولكن بشروط وخريطة تركية.
اعتمدت تركيا في عهد أردوغان عدة تحوّلات في سياساتها عامة، ومع الملف السوري والاستثمار فيه خصوصاً
لا يمكن، في ظل انقلابات السياسة التركية، نفي حقيقة التقارب، أو الرغبة في التقارب مع نظام بشار الأسد، على الرغم من حجم التهم المتبادلة بين الدولتين، والرئيسين، وعلى كل الصعد. ولكننا تعوّدنا في السنوات الماضية على تسامحٍ “لافت” من الرئيس أردوغان مع خصومه الخارجيين، وخصوصاً مع اقتراب مواعيد انتخابية تركية. ومفهومٌ أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح، وأن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، وفق المنهج البراغماتي في السياسة، لكن الرئيس التركي تعامل مع ذلك كله بخفة واضحة تجاه الشعب السوري، أو على الأقل تجاه المعارضة السورية التي يحتضن كيانها الرسمي (الائتلاف الوطني لقوى الثورة المعارضة والثورة)، إذ غيّر تموضع تركيا، بطريقة الانقلابات الدراماتيكية، لا سيما أنه كان يحيل كل سياساته، في علاقاته ومواقفه الدولية، إلى قيم سياسية وأخلاقية مبدئية.
وفي مراجعة إجمالية، اعتمدت تركيا في عهد الرئيس أردوغان عدة تحوّلات في سياساتها عامة، ومع الملف السوري والاستثمار فيه خصوصاً. الأولى، وقوامها صفر مشكلات مع الدول الأخرى، لا سيما المجاورة، والتي هندس أركانها رئيس الوزراء السابق، داود أوغلو، الذي أطيح فيما بعد، وهي السياسة التي وسمت سياسات تركيا ومواقفها قبل ثورات الربيع العربي. وكانت تلك المرحلة تستند إلى محاولة تركيا تعظيم نفوذها بواسطة القوة الناعمة، أي عبر فعاليتها الاقتصادية، وعبر نموذجها لدولة إسلامية وعلمانية وديمقراطية، ودولة في حلف الناتو.
ما بعد تسليم تركيا حلب لروسيا والنظام هي المرحلة التي ولدت فيها أكثر موجات اللاجئين، التي استخدمت ورقة إزاء الدول الأوروبية
أما المرحلة الثانية، وترسّمت بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، بخاصة في محطتها السورية (مارس/ آذار 2011)، ففيها شجّعت تركيا الثورة السورية نحو العسكرة، ودعمت أو شكلت فصائل إسلامية، وهيئات المعارضة (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، ما أدّى إلى تحول الصراع من داخلي بين نظام ومعارضة إلى حربٍ بين نظام وفصائل مسلحة بأجندات خارجية، أباح خلالها النظام (وداعماه، إيران وروسيا، لاحقاً) لنفسه استخدام كامل أسلحته الأرضية والصاروخية والجوية، واتخذت تركيا موقفاً معادياً للنظام وفق شعارات أن حلب خطّ أحمر.. إلخ، وامتدت تلك المرحلة إلى حين إسقاط الدفاعات الجوية التركية الطائرة الروسية (2015).
وجاءت المرحلة الثالثة بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية (سبتمبر/ أيلول 2015)، وبعد الاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، والذي تم تأكيده في زيارة أردوغان روسيا ولقائه الرئيس بوتين (أغسطس/ آب 2016). ففي تلك المرحلة جرى التحول الكبير في السياسة التركية بعقد اتفاق أستانة الثلاثي الذي جمع تركيا بروسيا وإيران شريكي النظام السوري وداعميه في الحرب ضد معارضيه من جهة، وضد فصائل تابعة لجهات خارجية من جهة ثانية، ومنها تركيا. وقد نجم عن ذلك إنشاء قناة تفاوضية (أستانة)، واتفاقات “خفض التصعيد”، التي أدّت إلى خسارة المعارضة مكانتها السياسية، وسيطرتها على مناطق في سورية، لصالح النظام (باستثناء منطقة إدلب التي بقيت تحت حكم جبهة النصرة وفصائل محسوبة على تركيا).
وهنا لا بد من ذكر أن ما بعد تسليم تركيا حلب لروسيا والنظام هي المرحلة التي ولدت فيها أكثر موجات اللاجئين، التي استخدمت ورقة إزاء الدول الأوروبية، كما جرى في تلك المرحلة استخدام ورقة الصراع التركي مع القوى الكردية، وإبرازها الهم الأول لتركيا، والأمن القومي التركي، على حساب وحدة الشعب السوري، ومصالح السوريين، وسلامة مسار الثورة السورية.
السؤال الآن عما يمكن أن تجرّه السياسات على اللاجئين السوريين في تركيا، وعن مصير المفاوضات
المرحلة الرابعة، وهي التي نشهد فصولها منذ العام الماضي (2021)، والتي تتمثل بالقطيعة مع كل السياسات السابقة، وهو ما تجلى في إنهاء حال الخصومة السياسية التركية مع إسرائيل، أي بتطبيع العلاقات وتوطيدها معها، وكانت هذه العلاقات قد جمّدت سياسياً بعد الاعتداء الإسرائيلي على الباخرة مرمرة، وبعد العدوان الإسرائيلي على غزة (2012). كذلك تم تطبيع العلاقات مع السعودية، التي كانت تأزمت بفعل تصريحات واتهامات التركية للقيادة السعودية بعد حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول (2018)، وهو ما حصل أيضاً في تطبيع العلاقات مع الإمارات، وتفعيل الخطوة نفسها مع مصر.
القصد أنه بعد كل تلك التحولات الهائلة والكبيرة، تأتي قصة التحوّل في علاقة تركيا مع النظام السوري، واستعدادها لتطبيع العلاقات معه، وتبريرها ذلك بحجّة مواجهة انفصاليين وإرهابيين في شمال سورية، باعتبار ذلك هدفاً مشتركاً، وكأن كل تصريحاتها ومواقفها وسياساتها سابقاً لم تكن، أو كأن ذلك كان صادراً عن نظام آخر، أو دولة أخرى، أو تحت ضغط قوة عظمى استطاعت تركيا اليوم تجاوزها أو الانتصار عليها.
في ظل تلك التقلبات، ليس السؤال الآن عن موقف تركيا، والتي ربما تكون فعلياً في مصلحة حزب أردوغان الحاكم وانتخاباته، على الرغم من أن الشعب السوري هو من انكوى وينكوي بآثارها، وإنما عما يمكن أن تجرّه تلك السياسات على اللاجئين السوريين في تركيا، وعن مصير المفاوضات التي يأمل السوريون منها تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، في ظل التبعية الكاملة للقسم الأكبر من أعضاء الكيانين المعارضين، سواء “الائتلاف” أو هيئة التفاوض، لما تمليه عليهم تركيا (المتصالحة مع النظام) وسياساتها؟