تخبط في صفوف حزب الله
لسنوات خلت، كان يكفي الإيحاء، حتى يهرعوا للتلبية. تسري شائعة بشأن ما يريده «الحزب» فيتسابقون في أكثر مواقع القرار على الاستجابة، كسباً للتنويه والإشادة، فقائد «حزب الله» في الموقع الأعلى وصاحب الكلمة الأخيرة، وبين أيدي القيادات الأدنى صكوك غفران، فهم من يحتكر الحق بفحص دم الآخرين وتوزيع الشهادات بالوطنية أو التجريم!
تغيّر وجه لبنان وموقعه، بين محطة حرب يوليو (تموز) 2006 ومحطة التسوية الرئاسية في العام 2016. شكلت الحرب منصة للانقضاض على الداخل اللبناني، والبدء بقضم السلطة والقرار، وتصنيف جريمة اجتياح بيروت في العام 2008 بـ«اليوم المجيد»! فيما محطة التسوية الرئاسية في العام 2016 التي تمت بالعمق مع «حزب الله»، وقضت بانتخاب ميشال عون، مرشحه الوحيد، رئيساً للجمهورية، حدثت بعدما أحكم قبضته على القرار والحدود، مستفيداً من زخم الاتفاق النووي في العام 2015 ليطوّع أطراف المنظومة السياسية.
حتى «17 تشرين» 2019، كان «حزب الله» أشبه ما يكون عليه المندوب السامي لأي احتلال، يتسارع أركان السلطة التابعة لتنفيذ الطلبات أياً كانت، والسير في توجهاته دون نقاش، والتعامي عن مخاطر أجندة سياسية نجحت باختطاف الدولة. احتكر قرار السلم والحرب، وأحكم قبضته على القرار السياسي، وفرض هيمنته على القرار الاقتصادي، وتحولت الحكومات في الحقبة الأخيرة إلى مجرد واجهات ركيكة، تغطي تجاوزاته وتصبغ الشرعية على قرارات الدويلة التي تغولت على الدولة. فتم اقتلاع البلد من موقعه كخطوة على طريق إلغاء عروبته الفعلية، وهي نقيض العزلة والتقوقع.
تم تحويل لبنان إلى منصة متقدمة في خدمة مشروع «إيران الكبرى»، ليتم عبرها استهداف بلدان المنطقة والتدخل ضدها والتصويب على أمنها الاجتماعي، والهدف إلحاق لبنان بمحور الخراب، على قاعدة كسر معادلة حفظت له خصوصيته وأمنت له الاستقرار والازدهار. والنتيجة بالنهاية معروفة وهي انهيارات شاملة نجمت عن نهب واسع مخطط له، ترافق مع تلاشي السلطات وتداعي المؤسسات، وبدء تحول البلد إلى مجرد بقعة جغرافية بائسة تم تصحيرها من قدراتها وكفاءاتها وفئاتها الشابة. وتم الكسر النهائي لمبدأ رافق قيام لبنان الاستقلال، وهو أنه لن يكون مقراً ولا ممراً للعدوان على أشقائه العرب.
تشاركوا كلهم مع «حزب الله»، الذي برمج أدوارهم وأحجامهم، شراكة البعض تراوحت بين المساهمة في وضع قانون انتخاب مذهبي جوّف النسبية وتصادم مع الدستور، إلى ابتداع سياسة أسموها «ربط نزاع» مع الحزب، أي الرضوخ لكل ما أراده وابتغاه، ولم يرفع أي طرف ولو مرة سلاح الموقف حيال التجاوزات وسياسة ارتهان البلد، فكانوا جميعاً في موقع الشراكة وتحاصص الدولة وحقوق الناس!
جاءت «17 تشرين» لترفع بداية قضايا مطلبية، صوبت على الجميع بوصفهم يتحملون مسؤولية الانهيارات وما آل إليه الوضع العام، ومعه دوس الحقوق، فكان شعار الثورة: «كلن يعني كلن»، يتحملون المسؤولية. ولم يتأخر الوقت حتى تحوّل الشعار إلى «كلن يعني كلن و(حزب الله) واحد منن»، مع تأكد استحالة تحقيق أي مطلب بدون استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح… وبدأت تطل صورة أخرى مغايرة تعكس طموحات اللبنانيين وآمالهم. لم تتأخر طهران عن اعتبار «ثورة تشرين» تستهدف نفوذها وهيمنتها، وبدأت حملات التخوين والضغط، وحرق الخيم، لكتم الأفواه، فالاعتداءات على المتظاهرين السلميين، وصولاً إلى اقتلاع عيون المئات، وحتى اللحظة لم يحاسب من أعطى الأمر، ولا المرتكب، فيما مئات الشباب تم توقيفهم ومحاكمتهم!
صحيح أن الثورة لم تقلب الصورة، لكنها عرّتها، كما لم تبلور بعد البديل السياسي، ولم تكتمل لها الرؤى البرنامجية، ولا الأدوات الكفاحية المنظمة للدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم، لكنها صدعت منظومة الفساد، ولم يعد الولاء لـ«حزب الله» كافياً لإبعاد البعض عن ساعة الحساب الآتية مهما تأخرت. كما أنه لم تعد كافية حسابات «الحزب» لإمساك البلد من خلال إمساكه بزعامات طائفية متورطة بالفساد وتغطية الارتهان، بعدما أدخلت الثورة المواطنين كجهة فاعلة إلى الحياة السياسية. هنا يجب التشديد أن جريمة التفجير الهيولي لمرفأ بيروت وترميد ثلث العاصمة دفع بعض الأطراف إلى البدء في إعادة حساباتهم. والأمر الأكيد أنه رغم القمع و«الكورونا» والإفقار، فإن الحضور «التشريني» مستمر، ويرعب قوى التسلط والاستبداد.
كان لافتاً تتالي أحداث واجهها «حزب الله» خلال الأشهر الماضية، ولافت تخبطه في مواجهتها. مع عرب خلدة إلى التعدي على أهالي عين الرمانة، وبينهما مصادرة أهالي شويا راجمة صواريخ وعناصرها… وتالياً فتح المعركة ضد القضاء بما يتجاوز الإصرار على «قبع» المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ ومنع الحقيقة ومصادرة العدالة، وربط «إنجاز» ذلك بضخ الأكسجين في عروق حكومة جثة ممنوعة من الاجتماع رغم المجاعة. وبقدر ما بات الناس يضيقون ذرعاً بسلاح «الحزب» ووعيده، بات يضيق ذرعاً بالحيوية الانتخابية المهنية، فتخرج صحيفة بعنوان «(حزب الله) يخسر نقابتي الصيدلة والأسنان… فيحطم صناديق الاقتراع»! وتعنون أخرى: «نموذج نقابة أطباء الأسنان… الخاسر بالانتخابات النيابية سيكسر البلد»!
تدور أسئلة الناس حول أبعاد استسهال استهداف السلطة القضائية، ولماذا لم يُترك «حائط عمار» مع العدلية، عندما يتقدم نصر الله بالذات فيكيل التهم بـ«الاستنسابية»، و«التسييس»، وأنه ما من قاضٍ يجرؤ على قرار إبعاد البيطار، لأن من يدعمه «جهات خارجية وأميركية على وجه التحديد»! وإلى متى القفز فوق الجديد الذي جاءت به الثورة وتالياً جريمة المرفأ، فانتفضت العدلية ولم يعد تلميع هالة الزعيم تتقدم حقوق الناس.
الأكيد أن قرارات هيئة محكمة التمييز، أعلى هيئة قضائية، صدمت كل المنظومة السياسية لأنها أكدت أن استقلالية القضاء يمكن أن تنتزع بالممارسة السليمة. وأن الانتفاضة التي شملت مواقع قضائية مؤثرة، وجّهت رسالة بأن شرايين العدالة أصلب من الوعيد بالـ«قبع» وعصية على التدجين، ولن يكون القضاء أداة وأد الحقيقة والتحقيق في أخطر جريمة إرهابية ضربت لبنان، ولتؤكد أكثر أن العدالة وحدها تخرج عشرات ألوف الأسر من «تروما» مستمرة نتيجة الخشية من وجود وسادات موت أخرى مزروعة تحت المنازل!
«حزب الله» في تخبطه، يمتلك خيارات كثيرة يمكن أن ترتب تداعيات قاسية، لكنه بات متعذراً قضائياً وقف التحقيق العدلي، ومنع وضع القرار الاتهامي. وإن كان صحيحاً أنه ما من جهة تعلم ماذا سيتضمن، وهو لم يكتب بعد، فإن «الحزب» يعرف أنه طيلة وجود «نيترات الأمونيوم» في المرفأ، كان الجهة المهيمنة على الأرصفة والعنابر! وفي المعركة المفتوحة قضائياً ووطنياً، يعرف أن المنظومة السياسية المتمسكة بالحصانات، لم تقنع المواطنين بأولوية حماية المدعى عليهم بالجناية وببقاء نظام الإفلات من العقاب!