تحديات الانتقال السوري: من الإمارة إلى الدولة

كتب رفيق خوري في صحيفة إندبندنت عربية.
لا نقص في وضوح ما هو ضروري لإنجاح المرحلة الانتقالية في سوريا. ولا شيء يضمن نجاح الإدارة الجديدة أكثر من نجاح المرحلة الانتقالية. فالمشكلات الموروثة من النظام الشمولي الساقط معقدة. والمشكلات المستجدة مع المخاوف من نظام شمولي أسوأ وأخطر ضاغطة. وإذا كان الرهان مصيرياً على الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع من حيث لا بديل منها موضوعياً في الوضع الحالي، فإن الاتكال على “قوة” الخوف من الانهيار لا يكفي. وما عادت تكفي قوة الفرح بإسقاط النظام السابق والتي بدأت تتآكل. ولا بد من تجديد الرصيد عبر قوة الإنجاز.
ليس بيان مجلس الأمن الدولي الداعي إلى تطبيق القرار 2254 الذي رفض بشار الأسد تطبيقه، وتصرف أحمد الشرع على أساس أن الوضع الجديد تجاوزه، سوى تذكير بأن القرار يفرض مشاركة الأمم المتحدة في العملية الانتقالية. ونقطة البداية هي أن تكون سوريا في مرحلة انتقالية بالفعل. فالفارق كبير بين عملية انتقالية تؤسس لدولة عبر التشاركية وتمثيل التنوع الغني في المجتمع السوري وبين عملية انتقالية تؤدي إلى “التمكين” لحكم السلفية الجهادية. وهو كبير أيضاً بين إشراف الأمم المتحدة على “حل سوري – سوري بقيادة سوريين” والتنافس بين الدول على الأدوار المطلوبة في المرحلة الحالية والنفوذ في المراحل المقبلة. تدويل “إيجابي” تحت مظلة الأمم المتحدة على أرض حوار وطني في الداخل لتحديد طبيعة المرحلة الانتقالية ومؤسسات الدولة في المرحلة النهائية، مقابل تدويل “سلبي” عبر تراكض المسؤولين في كل الاتجاهات الإقليمية والدولية لضمان الدعم والشرعية بقليل من الالتفات إلى المصدر الأساس للشرعية في الداخل.
السؤال ليس فقط أين عشرات الآلاف من السوريين الذين نزلوا إلى الشارع في تظاهرات “سلمية” بل أيضاً لماذا بقي الثوار والمعتقلون على هامش الوضع الجديد، واستمرت مأساة النازحين في الداخل واللاجئين إلى الخارج؟ والمسألة ليست حماية أو ضمان “الأقليات”، بل الخروج نهائياً من قاموس الأكثرية والأقليات إلى قاموس الشعب الواحد في دولة مواطنة. وليست تأليف لجان تحقيق في جرائم على الهوية ومجازر في الساحل والسويداء، بصرف النظر عما يحدث أو لا يحدث في التحقيق وبعده، بل هي إصلاح الأداة التي تتولى موضوع الأمن. فلا حلول عسكرية لقضايا “قسد” والسويداء والساحل الغربي حتى لو صارت القوى الأمنية وطنية غير أيديولوجية. ولا حلول سياسية عبر حكم دمشق بالطريقة التي أديرت بها إمارة إدلب والعقلية التي سادتها.
اللعبة دقيقة في بلد يعترف الجميع بأهمية موقعه الجيوسياسي والاستراتيجي. ومن هنا الرعاية الأميركية والسعودية للإدارة الجديدة مع دعوتها إلى الانفتاح على الناس. أما التنافس الإسرائيلي – التركي، فإنه بالغ الحساسية في مرحلة ما بعد النفوذ الإيراني. وأما الذهاب إلى روسيا التي يطالب كثر في سوريا بأن تعتذر عن حربها ضدهم لمصلحة الأسد، فإنه محاولة لتسوية قضايا عالقة من اتفاقات اقتصادية وعسكرية مع نوع من تكرار اللعب بين الكبار والذي أتقنه الرئيس حافظ الأسد ولكن في ظروف مختلفة. حتى أميركا الداعمة للإدارة الجديدة فإنها قد تفرض على دمشق تنازلات لمصلحة إسرائيل في الجولان. ولا مهرب أمام سوريا من تحديد النظام الاقتصادي الذي تنتقل إليه الآن عشوائياً من بقايا الاشتراكية إلى الليبرالية، ولا من المحور الغربي والعربي الذي احتضنها، بصرف النظر عن الرغبة في تنويع الخيارات.
يقال في أوساط سورية متعددة من كل ألوان الطيف السياسي إن سوريا خسرت الثورة التي دفعت الثمن غالباً في العمل لها، وحصلت على ثورة مضادة. والفضل يعود إلى بشار الأسد الذي عمل على إخراج العلمانيين والوسطيين من الساحة لدفع المتطرفين إلى تصدر القتال على أمل الحفاظ على نظامه عبر تخيير العرب والغرب بين نظامه ونظام “القاعدة” و”داعش”، فضلاً عن إعطاء الأولوية للحل العسكري ورفضه للحل السياسي.
أخطر ما يحدث اليوم هو استسهال الحل العسكري أمام حساسية الحل السياسي الذي يحتاج إلى الدقة والحكمة. فكل اندفاع في حل عسكري، ولو نجح موقتاً، ينتهي إلى فشل كبير. وأية سلطة تبنى على أيديولوجيا دينية تقود إلى حكم على طريقة “داعش”، والجدل حول المركزية واللامركزية عقيم إن لم يكن المتجادلون على الطريق إلى نظام ديمقراطي هو الحل. فالثورة السورية دفعت أغلى الأثمان من أجل مبدأ “الانتقال الديمقراطي للسلطة”. والنظام الشمولي الذي كان ثورة مضادة حاول أن يقتل فكرة الديمقراطية. وأي حكم يهرب من الديمقراطية بعد إسقاط ثورة مضادة يمارس لعبة الثورة المضادة التي لا تعيش في مجتمع متنوع مثل المجتمع السوري، مهما طال الوقت.
التحدي الكبير حالياً هو العمل على خطين، استعادة روح الثورة، والشغل الجدي في ورشة بناء الدولة. فبعض يسأل إن كنا في ما يسميه المتخصص الفرنسي أوليفييه روا “صعود إسلام ما بعد الدولة”؟ وبعض آخر يسأل إن كنا نشهد ما سماه منافسه المتخصص الفرنسي جيل كيبل “الطبعة الثالثة من السلفية الجهادية”؟ لكن المواطن العادي لا يحتاج إلى خبرة لكي يعرف أن سلطة قائمة على عصبية سلفية جهادية هي مشروع حرب أهلية، وخطوة نحو تخلي القوى الإقليمية والدولية الداعمة واستحالة النهوض الاقتصادي.
أما السؤال الذي طرحه المتخصص في مجال العلوم السياسية في جامعة السوربون وأول رئيس للمجلس الوطني السوري برهان غليون، فإنه “هل يمكن لفصيل اعتاد منطق الحرب أن يتخلى عن سياسة التعبئة والحشد، ويتبنى منطق السياسة التي تستطيع وحدها إحراز تقدم على طريق بناء الدولة؟”. وجوابه هو “لا شيء مستحيل، ولكن لا شيء مؤكد، ولكي تنجح في التحول إلى دولة ينبغي أولاً أن تمثل مبادئ الدولة، ولكي تفرض السلطة نفسها سلطة مركزية للدولة على العصائب الأخرى يجب أن تتبنى منطق الدولة وتخضع لقواعد عملها”.
العالم، في رأي فوكوياما قسمان “تاريخي وما بعد تاريخي”، ولكن ماذا عن عالم ما قبل تاريخي؟