رأي

بين ألمانيا وفرنسا.. ساحات الاختبار الأوروبية

كتب عمرو حمزاوي. في “الشروق”:

تلقى الوضعية الراهنة فى ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأكبر من بين دول أوروبا، الكثير من الضوء على تناقضات السياسات الاقتصادية المقترحة من قبل قوى اليمين الراغبة فى نظم رأسمالية بلا حدود إنسانية أو اجتماعية أو بيئية، ومن قبل قوى اليسار الباحثة عن المنافسة فى السوق الرأسمالى دون نسيان الفقراء والطبقات الوسطى وحقوق الأجيال القادمة التى حتما ستتحمل كلفة التخريب البيئى الذى رتبته فى البدء ثورات الأوروبيين الصناعية والتكنولوجية قبل أن تعولم وتتجه من القارة العجوز غربا إلى أمريكا الشمالية، ثم شرقا إلى آسيا بمراكزها الاقتصادية الكبرى فى اليابان وكوريا والصين (بالترتيب التاريخى للصعود الصناعى والتكنولوجى).

فالائتلاف الحاكم فى برلين يضم الحزب الديمقراطى الحر، وهو صاحب توجه يمينى مناصر لرأسمالية لا حدود لها وقريب سياسيا من المصالح المالية (البنوك) والشركات الصناعية الكبرى (شركات السيارات) التى تطالب بخفض الضرائب، وبالحد من كلفة شبكات الأمان الاجتماعى الضمانات الاجتماعية، وبتوجيه الاستثمارات الحكومية إلى تطوير القاعدة الصناعية والتكنولوجية دون كثير اعتبار لمسألة الطاقة المتجددة أو لأولوية خفض الانبعاثات الكربونية والحرارية.

بالائتلاف الحاكم أيضا حزب الخضر المعبر عن اليسار الحديث المتبنى منذ سبعينيات القرن العشرين لقضايا العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية والسلام العالمى، وهو وإن ورطته المشاركة فى الحكم فى تأييد تقديم ألمانيا لدعم عسكرى لأوكرانيا فى حربها الحالية مع روسيا والموافقة على زيادة غير مسبوقة فى موازنة الدفاع ومخصصات الجيش الألمانى إلا أنه يرفض بشدة خفض الضرائب على الأغنياء، ويعارض توجيه الاستثمارات الحكومية إلى الصناعات التقليدية، ويطالب بإعطاء الأولوية فى السياسات الاقتصادية لتقوية شبكات الأمان الاجتماعى ولتمويل الاستثمار فى مصادر الطاقة المتجددة ومواجهة تداعيات التغير البيئى.

بين الحزبين وبين الموقفين اليمينى واليسارى من السياسات الاقتصادية، يقف حزب المستشار أولاف شولتس، الحزب الاشتراكى الديمقراطى ممثل اليسار التقليدى، عاجزا وغير قادر على الفعل الحكومى المنظم إن باتجاه تحرير السوق الرأسمالى من كل القيود الإنسانية والاجتماعية والبيئية لتعزيز التنافسية أو باتجاه استعادة التوازن الاجتماعى لاقتصاد السوق وتحقيق عدالته البيئية.

بل إن السياسة الألمانية وهى تتكالب على التورط العسكرى فى الحرب الروسية على أوكرانيا عوضا عن التهدئة والوساطة والتفاوض من أجل إنهاء الحرب بحل سلمى، تفقد جمهورية بون ــ برلين هويتها التى ساعدتها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية على العودة إلى النظام الدولى كدولة تخلصت من عدوانيتها وقدمت إسهامات عدة للحفاظ على السلام وغيرت مع فرنسا وجه القارة الأوروبية بمشروع الاندماج القارى الذى صار اليوم الاتحاد الأوروبى.

وباستخفاف السياسة الألمانية بتداعيات التورط العسكرى وسباق التسلح العالمى الجديد الذى تريد حكومة المستشار شولتس تمويله ألمانيًّا بمبلغ يتجاوز 100 مليار يورو تبتعد جمهورية بون ــ برلين عن إرث سياسة الشرق والتسوية مع روسيا التى صنعها الحزب الاشتراكى الديمقراطى بزعامته التاريخية فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين والمكونة آنذاك من فيلى برانت وايجون بار وهيلموت شميت، ثم طُورت حين سقط جدار برلين فى 1989 إلى تسوية شاملة مع روسيا سمحت بتوحيد الألمانيتين بقيادة مستشار الوحدة الألمانية المسيحى الديمقراطى، هيلموت كول، ومعه الحزب الديمقراطى الحر برئاسة وزير الخارجية المحنك هانس ديتريش جينشر.

  • • •

إلى جانب إرسال السلاح الألمانى إلى ساحة الحرب الروسية ــ الأوكرانية وتوريط دافعى الضرائب فى سباق تسلح مجنون لم تعرفه جمهورية بون ــ برلين منذ تأسيسها، ثمة تقلبات عنيفة أخرى فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية ترتبط بأزمة الطاقة الحالية وتداعياتها. فقد رتبت العقوبات الأوروبية على صادرات النفط والغاز الطبيعى الروسية ارتفاعا كبيرا فى أسعار الطاقة فى القارة العجوز ودفعت كل دولها باستثناء تلك المنتجة والمصدرة للنفط والغاز إلى إعادة النظر فى خطط التوقف عن إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية ومن الموارد الملوثة للبيئة كالفحم. ألمانيًّا، يعنى ذلك بحث الحكومة الحالية وبعد أن كانت قد أقرت إغلاق المفاعلات النووية بحلول 2030 والامتناع عن استخدام الفحم لتوليد الطاقة وإغلاق المحطات الكهربائية العاملة به بحلول 2025 عن توافقات وجداول زمنية جديدة لكيلا تتعرض البلاد لهزات إضافية بسبب العقوبات المفروضة على الطاقة الروسية.

فى هذا السياق، وجد حزب الخضر، الشريك الراهن فى الائتلاف الحاكم والذى جعل من «التحول الأخضر» فى مجال الطاقة هدفا رئيسيا له، نفسه فى وضع مأساوى. وبينما يشارك ممثلو وممثلات الخضر فى الحكومة فى تمرير قوانين تعدل جداول الخروج من الطاقة النووية والطاقة الأحفورية (الفحم) وتطيل عمر المفاعلات والمحطات، تتمرد القاعدة الشعبية للحزب على القرارات وتبحث عن مواجهة القوانين الحكومية باحتجاجات واسعة وتعلن «خيانة» ساسة الحزب لمبادئه.

  • • •

إذا كانت هذه، وكما تدلل عليها الوضعية الراهنة فى ألمانيا، هى العناصر الاقتصادية للأزمة الكبرى التى تعانى منها القارة العجوز فى عشرينيات القرن الحادى والعشرين، فإن أوروبا تواجه أيضا اليوم أزمات اجتماعية وسياسية تعصف بمجتمعاتها وتدلل على حيرة مواطنيها ومواطناتها بشأن النموذج الأفضل لإدارة شئونهم وهوية عيشهم المشترك وطبيعة نظم حكمهم. فى جنوب القارة وشمالها كما فى شرقها وغربها، تتساءل الشعوب الأوروبية اليوم عن حدود العلاقة بين دولهم الوطنية وحكوماتهم المنتخبة وبين الاتحاد القابع فى بروكسل بحكومة قارية غير منتخبة ذات صلاحيات واسعة وبرلمان منتخب ولكن محدود التأثير.

تتساءل الشعوب الأوروبية، ثانيا، عن مضامين العقد الاجتماعى الذى يراد منه تنظيم العلاقة بين الأغنياء وبين الفقراء ومتوسطى الدخل، بين المواطنين الأصليين وبين الأفراد المجنسين والمقيمين واللاجئين، بين الأشخاص المتحمسين للهويات الوطنية وبين أنصار الاندماج الأوروبى وعولمة لا تخشى الارتحال والهجرة واللجوء، بين من يرفض وجود الأجانب ودعاة وضع الأسلاك الشائكة على الحدود وإغلاق أبواب الهجرة واللجوء من شعوبيين ويمينيين متطرفين وعنصريين وبين من يتمسك بإنسانية أوروبا وانفتاحها على الآخر من خارجها وتمكينه من القدوم إليها دون خوف (وأيضا لاحتياجات سوق العمل).

يتساءل الأوروبيون والأوروبيات، ثالثا، عن نظام الحكم الأفضل فى القرن الحادى والعشرين وفاعلية حكوماتهم المنتخبة ديموقراطيا والتى تتنازعها، من جهة، قوى اليمين الليبرالى والمحافظ واليسار الاشتراكى وقوى اليمين الشعبوى والمتطرف وقوى اليسار الراديكالى وتفرض عليها أزمات متتالية.

وبسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والتراجعات الاجتماعية، يشيع بين الشعوب الأوروبية قدر من التشكيك العام، تدلل عليه استطلاعات الرأى الراهنة، فى قدرة الحكومات المنتخبة على التغلب على معدلات النمو المنخفضة ومعدلات التضخم المرتفعة والقلق المستمر من قضايا الهجرة واللجوء، وهو ذلك القدر من التشكيك الذى تستغله القوى الشعبوية والمتطرفة لتمرير نقدها الجذرى للديمقراطية وتفتيت نموذجها.

الشاهد أن تواكب التراجع فى نسب النمو السنوية مع غياب العدالة فى توزيع أعباء الأزمة الاقتصادية بدفع الفئات الفقيرة والطبقات الوسطى إلى هاوية أزمة معيشية طاحنة ليست مرشحة للانتهاء قريبا ولن يصلح معها لا اكتفاء الحكومات الغنية كالسويد والدنمارك وهولندا وألمانيا بتقديم الدعم المالى والعينى ولا تعويل الحكومات متوسطة الحال فى إسبانيا وإيطاليا والمجر على المساعدات القادمة من مؤسسات الاتحاد فى بروكسل.

فأوروبا، فى جنوبها وشمالها كما فى شرقها وغربها، هى اليوم إزاء اختيارات كبرى فيما خص السياسات الاقتصادية المتبعة. البعض فى أوساط اليمين الليبرالى والمحافظ يريد إطلاق المنافسة فى السوق الرأسمالى دون حدود، ويتجاهل الجوانب الاجتماعية المتعلقة بضمان فاعلية شبكات الأمان (إعانات الإعاشة والبطالة والمعاشات) والخدمات (التعليم والصحة ونظم رعاية الأطفال وكبار السن) الممدودة للفقراء ومتوسطى الدخل، ويستبعد من النقاش العام والسياسى كل إشارة إلى ضرورة تحقيق شىء من التوازن والعدالة فى المجتمعات الأوروبية بكونها ستضعف من اقتصاديات القارة العجوز وتقلل من حظوظها فى مواجهة العملاقين الولايات المتحدة والصين.

فى المقابل، يطالب اليسار بأطيافه الاشتراكية التقليدية والحديثة بعدم التخلى عن البعد الاجتماعى للسوق الرأسمالى وبالمزج بين مقتضيات تنافسية القطاع الخاص فى أوروبا وخارجها وبين حماية الفقراء والطبقات الوسطى من خلال تطبيق نظم ضريبية تصاعدية (وبها ترتفع نسبة الضريبة المستحقة إلى الدخل مع ارتفاع الدخل) وإقرار ضرائب الأرباح الرأسمالية (أسهم البورصات مثالا) وضرائب الأصول العقارية المتوارثة (منازل الأسر المتوارثة نموذجا) التى تستطيع الحكومات أن توجه حصيلتها إلى شبكات الأمان والخدمات لغير الأغنياء وإلى تمويل التحول الأخضر، أى الاتجاه نحو الاعتماد على مصادر متجددة للطاقة وأنشطة اقتصادية (صناعية وزراعية وخدمية وتكنولوجية ومعلوماتية) منخفضة الانبعاثات الكربونية والحرارية.

اليوم، تتحول فرنسا بنتائج انتخاباتها البرلمانية التى دفعت بأقصى اليسار وباليمين العنصرى المتطرف إلى الواجهة وأحالت أحزاب الوسط إلى الهامش السياسى، تتحول إلى الساحة الأهم للاختبارات والاختيارات الصعبة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى