بوادر أزمة جديدة على أعتاب البنوك الأميركية عبر بوابة القروض العقارية.
كان لدى بنك “أو زد كي” (OZK) فرعان في ريف أركنساس عندما اشتراه الرئيس التنفيذي جورج غليسون في عام 1979، قبل أن يمتلك اليوم هو وبنك “ليتل روك” مليارات الدولارات في شكل قروض عقارية تجارية.
وعلى مدى عقد من الزمان حذت البنوك الإقليمية في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية حذو قواعد لعب مماثلة لبنكي “أو زد كي” و”ليتل روك” ملتهمة القروض العقارية التجارية والاستثمارات ذات الصلة في المدن الأميركية الكبرى، ولكن مع انهيار سوق العقارات التجارية اليوم أصبحت تريليونات الدولارات من القروض والاستثمارات تشكل تهديداً يلوح في الأفق للصناعة المصرفية، وربما الاقتصاد الأوسع.
تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” إن انكشاف البنوك اليوم في البلاد أكبر مما يتم الإبلاغ عنه عادة، وتشير إلى مواجهة البنوك خطر إطلاق سيناريو ما وصفته بـ”حلقة الهلاك”، إذ تدفع الخسائر في القروض البنوك إلى خفض الإقراض، مما يؤدي إلى مزيد من الانخفاض في أسعار العقارات ومزيد من الخسائر.
وقالت الصحيفة إن بنك “أو زد كي” الذي يجري عمليات مصرفية مع أكثر من 240 مكتباً في ثماني ولايات بما في ذلك أركنساس وجورجيا وفلوريدا ونورث كارولينا وتكساس ونيويورك وكاليفورنيا وميسيسيبي ويبلغ إجمالي أصوله 30.76 مليار دولار حتى يونيو (حزيران) الماضي، لم ينسحب من الإقراض، لكنه بدأ يرى بعض العلامات على وجود مشكلات في السوق.
وقال البنك إن في يناير (كانون الثاني) الماضي تخلف أحد المطورين عن سداد قرض بقيمة 60 مليون دولار تقريباً بعد تصاعد كلف البناء، لكن البنك اعتبر القرض آمناً نسبياً لأنه كان أقل بكثير من قيمة موقع البناء البالغة 139 مليون دولار في عام 2021.
وتشير الصحيفة إلى أن البنك عالق فعلياً في تمويل العقارات، ونقلت عن الرئيس التنفيذي جورج غليسون، قوله حول الأرباح في أبريل (نيسان) الماضي “إن شراء الأراضي في البيئة الحالية غير المستقرة ليس شيئاً سيفعله كثير من الناس”، إلا أنه رفض التعليق إن كان العقار سيهلك البنوك الأميركية.
اضطراب السوق وارتفاع الفائدة
وتقول الصحيفة إن السوق المضطربة اليوم، والتي يغذيها ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع الوظائف الشاغرة، تأتي في أعقاب سنوات من فترات الازدهار، حين ضاعفت البنوك تقريباً إقراضها أصحاب العقارات في الفترة من 2015 إلى 2022، إلى 2.2 تريليون دولار، كما أنشأت البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم عديداً من تلك القروض، وساعد كل هذا الإقراض في رفع أسعار العقارات، وسمح نجاح بنك “أو زد كي” على مر السنين لغليسون ببناء قصر فرنسي على طراز القصر بمساحة 27 ألف قدم مربع في ليتل روك، ملأه بمجموعة واسعة من التحف الأوروبية.
وقال جورج غليسون للصحيفة في عام 2019 “لم أقل أبداً إن ما نقوم به هو أقل مخاطرة”، ومع ذلك، أضاف أنه يعتبر بنك “أو زد كي” على الأرجح المقرض العقاري التجاري الأكثر تحفظاً.
البنوك وأخطار الإقراض للعقارات التجارية
وعلى مدى العقد الماضي زادت البنوك أيضاً من تعرضها للعقارات التجارية بطرق لا يتم احتسابها عادة في سجلاتها، كما أقرضوا الشركات المالية التي تقدم القروض لبعض أصحاب العقارات أنفسهم، واشتروا سندات مدعومة بنفس أنواع العقارات، في حين تسبب هذا الإقراض غير المباشر – إلى جانب العقارات المحجوزة والمحافظ التجارية والأصول الأخرى المرتبطة بالعقارات التجارية – إلى رفع إجمالي تعرض البنوك للعقارات التجارية إلى 3.6 تريليون دولار، وفقاً لتحليل الصحيفة، وهو ما يعادل نحو 20 في المئة من الودائع.
كما انخفض حجم مبيعات العقارات التجارية في البلاد في يوليو (تموز) الماضي بنسبة 74 في المئة عن العام السابق، ووصلت مبيعات المباني المكتبية في وسط المدينة إلى أدنى مستوى لها منذ عقدين في الأقل، وفقاً لمزود البيانات “أم أس سي أي ريل اسيت”. وقال رئيس قسم العقارات التجارية في شركة إدارة الأصول التي تركز على الديون “بينيفيت ستريت بارتنرز”، مايكل كومباراتو، إنه عندما تبدأ الصفقات مرة أخرى ستكون بأسعار أقل بكثير، الأمر الذي سيصدم البنوك. أضاف “سيكون الأمر سيئاً حقاً”.
الإقراض شريان حياة العقارات
ويعد الإقراض شريان الحياة لكل العقارات، مما جعل البنوك الإقليمية تهيمن لفترة طويلة على الإقراض العقاري التجاري، فيما تزايدت أهميتها بعد الأزمة المالية عام 2008، عندما خفضت أكبر البنوك في البلاد تعرضها للقطاع تحت رقابة الجهات التنظيمية، في حين جعلت أسعار الفائدة المنخفضة القروض العقارية ذات العائد المرتفع مربحة للاحتفاظ بها.
لكن تبدو هذه الاستراتيجية حتى الآن محفوفة بالأخطار بعد أن رفع بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) أسعار الفائدة، واليوم تتعرض البنوك لضغوط لدفع مبالغ أكبر للمودعين لمنع العملاء من الفرار إلى بدائل استثمارية ذات عائد أعلى.
سحب المودعون أموالهم من عديد من البنوك الصغيرة والإقليمية في وقت سابق من هذا العام بعد انهيار ثلاثة بنوك متوسطة الحجم، مما أثار المخاوف من حدوث أزمة على مستوى النظام المصرفي.
سيناريو “حلقة الموت” للعقارات
وتقول الصحيفة إن سيناريو “حلقة الموت” للعقارات بدأ في الظهور في المدن الكبرى، فالمستثمرون العقاريون غير القادرين على إعادة تمويل ديونهم، أو الذين لا يستطيعون القيام بذلك إلا بأسعار فائدة مرتفعة، يتخلفون اليوم عن السداد، في حين غالباً ما يضطر المقرضون، الذين لم يعودوا يحصلون على مدفوعات الديون، إلى تدوين قيمة تلك القروض العقارية، وفي بعض الأحيان ينتهي الأمر بالبنك بامتلاك العقار.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة الاستثمار العقاري “آر إكس آر” سكوت ريشلر “إن الطريق مسدودة في الوقت الحالي، وهذا سيخلق نسخة احتياطية من شأنها أن تفيض في نهاية المطاف على أسواق العقارات التجارية وعلى النظام المصرفي”.
ويقول ريشلر إنه عندما يطلب اليوم من البنوك إعادة تمويل قروض عقاراته المكتبية لا يستجيب سوى القليل من تلك البنوك له، مشيراً إلى أنه في بعض الحالات لا يستحق الأمر حتى المحاولة.
كان لدى ريشلر رهن عقاري بقيمة 240 مليون دولار مستحق على مبنى مكاتب مكون من 33 طابقاً في مانهاتن السفلى، وكانت الوظائف الشاغرة مرتفعة، وكان تجديد المبنى أو تحويله مكلفاً، وكانت كلفة الرهن العقاري الجديد مرتفعة جداً، ولكن ريشلر راجع حساباته وقرر التخلف عن سداد القرض.
وقالت “آر إكس آر” إنها تعمل مع المقرض لتسويق المبنى للبيع لسداد القرض بسعر مخفض، وأنهم ناقشوا تعديلات القرض المحتملة إذا لم يتم بيع المبنى.
وإلى جانب البنوك يمكن أيضاً للمقرضين، مثل صناديق الديون الخاصة وصناديق الاستثمار العقارية ومستثمري السندات، توفير التمويل، ولكن يتم تمويل عديد منهم من قبل البنوك ولا يمكنهم الحصول على قروض.
وقال الشريك الإداري لمجموعة “نورثويند”، وهي شركة إقراض عقارية خاصة، ران إلياساف “إننا نشهد تطور أزمة ائتمانية خطرة”.
وفي وقت سابق من هذا العام أفاد بنك “أم أند تي” الإقليمي في بوفالو، نيويورك، أن ما يقرب من 20 في المئة من القروض المقدمة لأصحاب المكاتب كانت أكثر عرضة لخطر التخلف عن السداد، كما خفض البنك الإقراض العقاري التجاري بنسبة خمسة في المئة، وفي نهاية يونيو الماضي قام شطب قروضاً بقيمة 127 مليون دولار لثلاثة مكاتب ومنشأة للرعاية الصحية في مدينة نيويورك وواشنطن العاصمة.
وقال دارين كينج، الذي يشرف على الخدمات المصرفية للأفراد والأعمال في “أم أند تي”، في مؤتمر للمستثمرين في يونيو الماضي، “إن خسائر العقارات التجارية للبنك ستكون بطيئة”.
أحصت الصحيفة مئات المليارات من الدولارات من الإقراض غير المباشر، والذي غالباً ما لا يتم الكشف عنه بشكل واضح، من خلال تحليل تقارير البنوك المودعة لدى الشركة الفيدرالية للتأمين على الودائع والاستفادة من خبرات مفتشي البنوك السابقين لمعرفتهم بممارسات الإقراض المصرفي، ووجدت أنه في الفترة بين عامي 2015 و2022 ضاعفت البنوك تعرضها غير المباشر للعقارات، وشمل ذلك القروض المقدمة لشركات الرهن العقاري غير المصرفية وصناديق الاستثمار العقاري التي تمتلك وتدير المباني وتقرض أصحاب العقارات، كما تضمنت استثمارات في السندات المعروفة باسم الأوراق المالية التجارية المدعومة بالرهن العقاري، أو “سي أم بي أس”، وعززت البنوك أيضاً الإقراض للشركات الصغيرة التي استخدمت العقارات كضمان.
كما شكلت حيازات الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري والقروض المقدمة إلى صناديق الاستثمار العقارية وغيرها من الجهات المقرضة غير المصرفية نحو 18 في المئة مما يقرب من 3.6 تريليون دولار من التعرض للعقارات التجارية في عام 2022، أو ما يقرب من 623 مليار دولار، وفقاً لتحليل الصحيفة.
تراجع الحيازات العقارية
وشهد الربع الأول من عام 2023 أول انخفاض في الحيازات العقارية التجارية للبنوك منذ عام 2013، وفي تلك المرحلة خسرت حيازات البنوك من الأوراق المالية ما يقرب من 400 مليار دولار من قيمتها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى ارتفاع أسعار الفائدة، مع الإشارة إلى أنه لا يتعين على البنوك تحديد قيمة القروض في معظم الحالات، بالتالي فإن الخسائر الحقيقية من المرجح أن تكون أكبر.
كما يظهر تحليل الصحيفة أن البنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار دولار استحوذت على نحو ثلاثة أرباع جميع القروض العقارية التجارية اعتباراً من الربع الثاني من عام 2023، في حين شكلت هذه القروض نحو 758 مليار دولار من القروض العقارية التجارية منذ عام 2015، أو نحو 74 في المئة من إجمال الزيادة خلال تلك الفترة، وساعدت زيادة الإقراض في تعزيز أسعار العقارات التجارية بنسبة 43 في المئة في الفترة من 2015 إلى 2022، وفقاً لشركة “غرين ستريت العقارية”.
أسعار الفائدة
وتقول الصحيفة إنه من الممكن إنقاذ البنوك وشركات تطوير العقارات من دوامة الهبوط من طريق خفض أسعار الفائدة أو من طريق تكثيف المستثمرين شراء العقارات المتعثرة. وأشارت إلى قيام شركات “وول ستريت” بجمع الأموال لشراء العقارات، ولكن من المرجح أن يتم بيع عديد من العقارات بأسعار أقل بكثير من أسعارها الأخيرة، مما قد يؤدي إلى خسائر للمالكين والمقرضين، على حد قولها، كما يتعين سداد أو إعادة تمويل ما يقرب من 900 مليار دولار من القروض العقارية والأوراق المالية، ومعظمها بأسعار فائدة أقل كثيراً من أسعار اليوم، أو إعادة تمويلها بحلول نهاية عام 2024.
وأعلن بنك “فيرست ريبابليك”، إفلاسه في مايو (أيار) الماضي، كما تم شراء بنك “باك ويست” من قبل بنك كاليفورنيا في يوليو الماضي، مقابل مليار دولار تقريباً، وبحلول ذلك الوقت كان البنك قد باع بالفعل وحدة إقراض عقارية ومحفظة عقارية بقيمة 2.6 مليار دولار.
تحذيرات المنظمين للبنوك والإقراض العقاري
وتقول الصحيفة إن المنظمين حذروا البنوك في شأن الإقراض العقاري التجاري لسنوات، وفي عام 2015 اجتمعت الهيئات التنظيمية المصرفية في البلاد للتحذير من أن التركيزات العالية للقروض العقارية التجارية وسوء إدارة الأخطار تضع البنوك “في خطر أكبر للخسارة أو الفشل”، واستجابت عديد من البنوك بجعل القروض الفردية أقل خطورة، لكنها زادت بشكل جماعي الإقراض وخففت معايير الاكتتاب بطرق أخرى.
وأصبح بنك “سينتينيال”، ومقره في كونواي بولاية أركنساس، ممولاً كبيراً للمطورين الذين يبنون ناطحات السحاب الفاخرة في نيويورك وميامي، مع الإشارة إلى أن قروض البناء تعد من بين أخطر أنواع الإقراض العقاري.
وقال رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة لبنك “سينتينيال”، جون أليسون، في أواخر عام 2019 إن ممثلين عن بنك الاحتياط الفيدرالي حثوه على إبطاء إقراض البنك، ويتذكر أليسون قائلاً “إنهم يخبروننا أن مساحة الإقراض المخصصة للبناء ستنفجر… وأن العالم يقترب من نهايته” إلا أن بنك “سينتينيال” واصل زيادة قروض البناء، على رغم أنها نمت بشكل أبطأ من الودائع خلال الوباء.
وقالت شركة “هوم بانك شيرز” إنها لم تخسر أموالاً على قروض البناء وإن الزيادة في الودائع المخبأة في الاستثمارات فائقة الأمان قللت من أخطار البنك.
وفي يونيو الماضي، بعد فشل ثلاثة بنوك إقليمية، دعا رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي جيروم باول إلى “تعزيز القواعد التنظيمية” للبنوك الإقليمية والمحلية بسبب المستويات الخطرة من التعرض للعقارات التجارية.
وتقول الصحيفة إن قواعد اللعبة التي تمارسها الهيئات التنظيمية في التعامل مع البنوك الآن تشبه استراتيجيتها بعد الأزمة المالية في عام 2008، وهي السماح للبنوك بالعمل مع المقترضين المتعثرين والسماح لهم بالاحتفاظ بالرهون العقارية في دفاترهم بقيمتها الاسمية في كثير من الحالات.
وقال المحاضر في جامعة ميامي في أوهايو والمستشار السابق لمجلس الاحتياط الفيدرالي في مجال العقارات التجارية تايلر ويجرز إن “هذا النهج لن يكون فعالاً لأن أسعار الفائدة ارتفعت كثيراً، وفجأة أصبح لدى البنوك مقترضون يقولون، يا إلهي كنت أدفع بفائدة 3.5 في المئة والآن أدفع بفائدة 7.5 في المئة، وإذا لم يتمكن المقترضون من خدمة ديونهم، فيجب على البنوك الاعتراف بهذا باعتباره قرضاً سيئاً”.
اليوم تبيع البنوك الأوراق المالية التجارية المدعومة بالرهن العقاري، وفي حين ساعدت الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري على إحداث الأزمة المالية في الفترة 2008-2009، فإن الأوراق المالية الصادرة أخيراً تعتبر أكثر أماناً من نظيراتها قبل الأزمة لأن معايير الإقراض أصبحت الآن أكثر تحفظاً، فيما تمتلك البنوك نحو نصف السندات المستحقة، وفقاً لأبحاث “بنك أوف أميركا”، نتيجة الإفراط في الشراء في عصر الوباء.
وأضافت البنوك 131 مليار دولار إلى حيازاتها من الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري في عامي 2020 و2021، واستجابت الشركات العقارية لهذا الطلب بسعادة من خلال مضاعفة إصداراتها السنوية إلى 110 مليارات دولار في عام 2021، وفقاً لشركة البيانات العقارية التجارية “تريب”، كما انخفضت إصدارات “سي أم بي أس” إلى 16.4 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام.