باريس والقراءة: هل شح الإبريز في باريس؟
كتب أمين الزاوي فب إندبندنت.
لباريس في ذاكرتنا صورة نمطية، شكلتها ثقافة “الاندهاش” التي أسس لها الجيل الأدبي العربي والمغاربي عشية الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع الستينيات، حتى أضحت باريس هي “المقاهي الثقافية” التي لا تخمد فيها نار النقاشات الفلسفية والأدبية والسياسية، باريس هي “خبز الصباح والجريدة” تحت إبط الفرنسي يمشي في شارع هادئ مليء بالغيوم والأحلام، وهي أيضاً مركز إبداع العطور الفاخرة بكل أنواعها، هي باريس التي لا تركب فيها وسيلة نقل برية أو حديدية أو جوية أو بحرية إلا وتجد الركاب غارقين في كتبهم في سفر مزدوج، سفر في الجغرافيا، وسفر في الروايات، سفران لا يتحقق الواحد إلا بوجود الآخر.
اليوم نتساءل ماذا بقي من باريس القراءة الأدبية التي كتبها الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس وغيرهم، تلك التي كانت على مدى قرن مصدر الإغراء ومنبت الغواية الأدبية والجمالية؟
اليوم، لباريس إيقاع آخر، صورة أخرى، بشر آخرون، يومها يوم آخر مختلف، لقد سقطت صورة باريس والباريسي تلك التي رسمها الأدب الروائي العربي والمغاربي بكثير من الإعجاب والدهشة، اليوم وأنت في القطار ستبحث عن قارئ أو قارئة كتاب ورقي من بين المسافرين معك في المقصورة ذاتها فلن تجده إلا بالصدفة، الركاب غارقون في هواتفهم الذكية في تعليم الغباء.
هل باريس توحشت؟
كانت صورة الباريسي في الميترو كما صورته في فضاء للصلاة أو التأمل، هدوء وصمت وعالم حالم وسلوك مدني راق، اليوم أصبح الميترو سوقاً شعبية ضاجة صاخبة، والقطارات السريعة بين المدن على الحال ذاتها، الركاب يسمعون الموسيقى من هواتفهم، يشاهدون فيديوهات “تيك توك” و”يوتيوب” ويضحكون وحدهم، عالم منفصل عن العالم، عالم الواحد منفصل عن عالم الآخر.
في مثل هذا العالم المختل، حين نعثر على مواطن أو مواطنة بكتاب بين اليدين، نشعر وكأن الزمن الجميل حط خطأ في هذه المقصورة، وأن هذا القارئ أو القارئة خرج من عصر آخر من باب الخطأ أيضاً.
في باريس كل شيء تغير أو يكاد
هل باريس لم تعد تقرأ كما كانت قبل نصف قرن، وهل تلاشت صورة الفرنسي والفرنسية، إذ لم يكن وجود هذا أو تلك إلا والكتاب حاضر في الذهاب إلى العمل كما في العودة؟
لقد قلبت التكنولوجيا المتوحشة مجتمع باريس القارئة رأساً على عقب، اختفت من الفضاء العام، أقصد باريس القارئة الكلاسيكية في الأقل.
كان الطفل لا يسافر مع أمه إلا وكتابه معه، قبل أن تحضر هذه الأخيرة أدوات تجميلها تحضر سلة كتب القراءة، وكان بعض من المسافرين حين لا يقرأ كتاباً تجده منشغلاً بلعبة الكلمات المتقاطعة لتحسين حصيلته اللغوية. كل شيء كان يتحرك من أجل الدفاع عن مكانة لسحر الكلمة ومتعة القراءة.
هل تراجعت القراءة أم تغيرت عاداتها مع تغير الوسائط من كتاب كلاسيكي إلى كتاب رقمي أو مسموع؟
هل اختفت باريس القارئة التقليدية؟
على رغم أفول الصورة الكلاسيكية لباريس القارئة، باريس ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينيات، لا تزال باريس الجديدة تقاوم بقوة هذا الفراغ، من خلال مجتمع الثقافة والأدب والنشر، فلباريس ثلاثة “دخولات أدبية” في السنة، الدخول الأكبر وهو في شهر سبتمبر (أيلول) إذ تقذف المطابع بآلاف الكتب على اختلاف أجناسها وفلسفاتها، وتأتي في مقدمها الرواية، إذ وفي موعد الدخول الأدبي الأكبر تعرف الساحة الأدبية صدور ما يقارب 800 رواية، ومرات أكثر، وهو موسم الاستعداد للمنافسات على الجوائز الكبرى كالـ”غونكور” و”فيمينا” و”رينودو” و”ميديسيس” وجائزة الأكاديمية الفرنسية، ثم الدخول الأدبي الثاني المتزامن مع أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة وفيه يعرف نشر الكتب الجميلة المصورة وكتب الأطفال رقماً خيالياً استعداداً لهدايا أعياد الميلاد، إذ الكتاب لا تزال له مكانته المتواضعة بين الهدايا الأخرى الإلكترونية والموسيقية والاستهلاكية وغيرها، ثم الدخول الثالث وهو الصيف الأدبي وفيه تركز دور النشر على روايات الصيف، روايات العطلة، أو ما يسمى “بأدب القطارات”.
وفي كل دخول أدبي هناك عشرات الكتب من روايات أو سير ذاتية أو دراسات فلسفية وفكرية وسياسية تبيع مئات الآلاف من النسخ، وبمثل هذه الخطة تحاصر باريس الأدبية الراهنة وتصنع جيلاً من القراء الجدد.
وعلى إيقاع العصر التكنولوجي تعمل دور النشر على تكريس وزرع عادات القراءة الرقمية، فالكتاب الرقمي يعرف سنة بعد أخرى ارتفاعاً في نسبة المبيعات، ففي فرنسا وصلت نسبة مبيعات الكتب الرقمية إلى خمسة في المئة مقارنة بمبيعات الكتب الكلاسيكية الورقية، مع أن النسبة وصلت إلى 19 في المئة في سنوات جائحة “كوفيد”، وهو مؤشر سوسيوثقافي إلى بداية تحول هادئ في صورة باريس القارئة.
وتلعب الجوائز الأدبية في فرنسا التي تعد بالآلاف دوراً أساسياً في الحفاظ على باريس القارئة وفي ترقية القراءة والتحفيز عليها من خلال الترويج الإعلامي للعناوين المرشحة على مدى أشهر، في القوائم الطويلة ثم القصيرة، وخاتمتها تلك التي يكون لها حظ التتويج.
وظاهرة الجوائز الكثيرة تسهم ليس في تكريس عادات القراءة والمحافظة عليها فقط بل هي عملية اقتصادية كبيرة بالنسبة إلى دور النشر ولمكتبات البيع وللكاتب أيضاً، من هنا مؤسسات كثيرة إعلامية وتاريخية أسست لجوائز أصبحت موعداً ثقافياً وإبداعياً وازناً كالإذاعة، وجريدة “لوموند”، والأكاديمية الفرنسية، وكثير من المدن لها جوائز خاصة بها، وبعض الشخصيات الأدبية أو السياسية أو الاقتصادية أسست جوائز باسمها.
ولكي تحافظ باريس الأدبية على صورتها الفنية العريقة تحاول مكتبات البيع ومكتبات المطالعة العمومية تغيير أساليبها التقليدية في التعامل مع القارئ، وذلك بالتحرر من روتين الرفوف الباردة الهامدة بتنظيم لقاءات ثقافية وحوارية في الفضاء نفسه، وبعضها ينظم حفلات موسيقية راقية كلاسيكية أو ما يسمى بموسيقى الغرفة وبعضها أسس لملحق مقهى داخل المبنى نفسه لخلق جو جديد حميمي مغاير يجمع بين الاستهلاك والمعرفة.
والمدارس فتحت أبوابها للكتاب، فهناك برنامج أدبي شامل يشارك فيه مئات الكتاب من الروائيين والشعراء والمسرحيين في شكل لقاءات داخل المدارس والثانويات، إذ من الملاحظ أن القراءة تتقهقر في أوساط فئة المراهقين بخاصة، وتمثل هذه العملية محاولة لمصالحة قراء سن المراهقة مع الكتاب تحضيراً لمرحلة الجامعة.
إذا كنا نلاحظ اليوم غياب باريس القراءة في الميترو ومعها اختفاء كثير من ملامح الصورة التي قدمها طه حسين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس، فإن باريس القراءة تحاول أن تعيد صياغة نفسها في الجهة الأخرى باحترام مكانة الكتاب وفضاءات القراءة الأدبية في ظل توحش الاستهلاك التكنولوجي العابر للقارات.