رأي

انفجار بيروت 1983.. ما الذي أيقظ فرنسا؟

كتب الكاتب السياسي محمد قواص في “سكاي نيوز عربية”:

يصعب عدم استنتاج حيثيات سياسية لقيام فرنسا بالطلب من القضاء اللبناني باستجواب شخصين، يشتبه في ضلوعهما في الهجوم الذي تعرض له مبنى كان يضم جنودا فرنسيين عام 1983 في بيروت. يطرح الأمر أسئلة بشأن تلك الاستفاقة ورسائلها باتجاه بيروت وربما عواصم أخرى في المنطقة.

وتعود القصة إلى 23 اكتوبر 1983 حين اقتحمت شاحنات مفخخة مقرا لقوات المارينز الأميركية ومقرا لقوات المظليين الفرنسيين في بيروت، مما أودى بحياة 241 عسكريا أميركيا و58 عسكريا فرنسيا، وكان هؤلاء الجنود من بين القوات متعددة الجنسيات التي انتشرت في لبنان قبل عام في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

ويأتي الطلب القضائي الفرنسي الجديد بعد قيام وفود قضائية أوروبية تحمل ملفات تتعلق بالمنظومة المصرفية والانهيار المالي الذي أصاب لبنان، بإجراء جولة أولى من التحقيقات في بيروت في يناير الماضي. وقد لا يبتعد الطلب القضائي العائد إلى حدث دراماتيكي استهدف القوات الفرنسية في لبنان منذ 4 عقود عن سياق قضائي ضاغط على بيروت هذه الأيام في العديد من القضايا الملتبسة التي تقف وراء أزمات لبنان الراهنة.

وتعتبر بعض التحليلات أن الهمة التي أبداها قاضي التحقيق طارق بيطار مؤخرا بشأن انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 التي أدت إلى صدام مع النائب العام التمييزي وتفجر أزمة داخل الجسم والنظام القضائيين، سببها اجتماع وفد قضائي فرنسي في يناير مع القاضي الذي كان قد علق تحقيقاته قبل ذلك. واعتبرت بعض الأوساط أن بيطار تحرك على نحو استعراضي مفاجئ تلبية لضغوط أرادتها باريس في هذا الصدد.

وإذا ما كان اهتمام بعض العواصم الأوروبية بالملف المالي يهدف إلى التحقيق في شبهات فساد وصلت ذيولها إلى المنظومات المصرفية لتلك العواصم، فإن الأمر أثار داخل لبنان جدلا حول قانونية ذلك ومدى مسه بسيادة القضاء اللبناني. لكن التطور أفرج عن بدايات تحقيقات دولية في قضايا داخلية في لبنان، وهو أمر لطالما طالبت به قوى مدنية وسياسية لبنانية معارضة.

وإضافة إلى اهتمام القضاء الفرنسي بالتحقيق بانفجار مرفأ بيروت إلى درجة إرسال وفد لمقابلة المحقق اللبناني، فإن أمر التدخل تجسد قبل أيام بتوقيع 38 دولة على بيان مشترك في الدورة الـ52 لمجلس حقوق الإنسان، أعربت فيه عن “قلقها إزاء تأخر لبنان في التحقيق بانفجار بيروت”، بحسب البيان الصادر عن منظمة العفو الدولية، وحثت السلطات اللبنانية على “التقيد بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان من خلال اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية الاستقلال والنزاهة الكاملين للقضاء اللبناني في القانون والممارسة”.

غير أن استفاقة باريس هذه الأيام على إعادة فتح ملف قديم لا يمكن إلا أن تندرج في سياق رفع أدوات الضغط على لبنان، بعد فشل كل المبادرات الفرنسية لدفع الطبقة السياسية اللبنانية لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإقناع الدول المانحة بنجاعة ضخ وفورات مالية داخل أوردة النظام المالي والاقتصادي اللبناني.

كما أن باريس ومعها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تنظر بعين القلق إلى تصدع النظام السياسي اللبناني غير القادر على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، وعدم وجود أفق للوصل إلى اتفاق لبناني لبناني في هذا الشأن.

غير أن فتح ملف التفجير الذي تعرض له مقر قوات فرنسية في بيروت عام 1983 يعيد تسليط الضوء على تلك المرحلة بما في ذلك تورط حزب الله تحت مسمى “حركة الجهاد الإسلامي” بتنفيذ العملية، ما يعوّم إمكانات توجيه اتهام فرنسي للحزب الذي ما زالت باريس تحتفظ معه بقنوات تواصل ولم تدرجه فرنسا على لوائح الإرهاب على منوال ما فعلته بريطانيا وألمانيا ودول أوروبية أخرى.

لكن الأمر قد يقود أيضا إلى احتمال اتهام إيران بالوقوف وراء هذا الهجوم على الرغم من محاولة فرنسا دائما مداراة علاقتها مع طهران خلال العقود الأخيرة. صحيح أن توترا يشوب علاقات البلدين هذه الأيام بسبب ملف السجناء الفرنسيين في إيران وموقف باريس المنتقد لطهران في ملف المفاوضات النووية وسلوك إيران ضد المحتجين منذ مقتل الشابة مهسا أميني في سبتمبر الماضي، غير أن تطور موقف باريس باتجاه توجيه اتهام محتمل لإيران وحزبها في لبنان بقتل جنود فرنسيين قد يكون خطيرا إذا ما حصل، وقد يكون أحد مؤشرات تحضير ملفات من قبل المنظومة الغربية ضد طهران.

وكانت صحيفة “لوموند” الفرنسية قد كشفت قبل 10 سنوات عن غموض شاب التحقيقات بشأن الانفجار عام 1983. وقالت إن شهود عيان تم إهمالهم أكدوا عدم رؤيتهم أي شاحنة تقتحم المبنى وأنه لم يتم العثور على آثار للشاحنة بعد الانفجار. فيما رأى خبراء أمنيون أن الشكل الذي تهدم وفقه المبنى إضافة إلى نوعية النيران التي اندلعت عقب الصعق الانفجاري توحي بأن الانفجار حدث نتيجة زرع عبوات ناسفة في أقبية المبنى.

ولمحت الصحيفة إلى معلومات تقول إن المبنى كانت تقيم فيه قبل وصول الفرنسيين وحدات تابعة للمخابرات السورية، غير أن تحقيقات أخرى أكدت أن قوى أمنية فرنسية كانت فتشت المبنى بحرفية قبل أن يصبح مقرا للقوات الفرنسية. ونقلت “لوموند” أجواء قالت إن باريس حينها لم تكن تريد في ذلك الوقت تخريب العلاقة مع دمشق التي كانت تقوم بدور الوسيط مع إيران.

وتكمن غرابة الطلب القضائي الفرنسي في أنه يطال ملفا قد أقفلته السلطات اللبنانية بسبب تقادم الزمن، وهو يعود إلى مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية التي طوى اللبنانيون صفحاتها بإبرامهم اتفاق الطائف عام 1989.

ولئن انتهى التحقيق الفرنسي في حينه إلى تبني نظرية الشاحنة المفخخة وإهمال كل الفرضيات الأخرى ولم تهتم باريس بملاحقة هذه القضية على الرغم من الطلبات المكررة لأهالي الضحايا، فإن إعادة فتح ملف الحدث قد لا تكون بعيدة عن تحوّلات في مقاربة فرنسا للشأن اللبناني بما في ذلك تسليط الضوء من جديد على قضايا جرى الالتفاف عليها وإقفالها في زمن سابق لاعتبارات سياسية جيوستراتيجية وقد يجري إيقاظها لنفس الأسباب ولأغراض مستجدة في الزمن الراهن.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى