أبرزرأي

اليابان والاستراتيجية العسكرية

كتب محمد خليفة في صحيفة “الخليج” المقال التالي: من أجل فهم السياسة اليابانية، ومعرفة دوافعها وخلفياتها يستدعي ذلك أولاً معرفة اليابان سكاناً وتاريخاً وجغرافياً، والإحاطة كذلك بطبيعة المكان، وما يفرضه من التزامات جغرافية وسياسية واقتصادية.

لا ريب أن وثيقة الاستراتيجية اليابانية هي بداية حقبة حسم، لا في تاريخ اليابان وحدها، بل في تاريخ منطقة شرق آسيا، فهي تحوّل مختلف في العلاقات السياسية والعسكرية بين أمريكا واليابان. ويبدو أن الشعب الياباني خاصة في هذه الظروف الاستثنائية، المشحونة بالتوتر والتوجس والخوف، يؤمن بأن القوة وحدها، لا الإيديولوجيا، هي التي يمكن أن تحافظ على وحدة اليابان، بعد أن ظلت منذ احتلالها في الحرب العالمية الثانية من قبل الولايات المتحدة، محمية بالمظلة العسكرية الأمريكية، لأن الأمريكيين حرّموا عليها بالدستور الجديد الذي كتبوه لها، ألا تعود إلى منطق الحروب وألا تبني جيشاً كبيراً أو تمتلك قوة عسكرية. وهذا ما تضمنته المادة التاسعة من هذا الدستور.

ورغم أن هذا الشرط يُعد في علم السياسة نزع أظفار الخصم، إلا أن اليابان قد أفادت من هذا الشرط بأن سخرت كل قدراتها ومواردها المالية لبناء اقتصاد قوي يقوم على الصناعة، وقد نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً، لأنها كانت تملك بنية صناعية متقدمة منذ بدايات القرن العشرين. وكانت سياساتها الخارجية، ولا تزال، متسقة مع السياسة الأمريكية، حيث أصبحت ضمن التحالف الأمريكي العالمي في منطقة الشرق الأقصى، وسارت مع السياسة الأمريكية في الاعتراف بتايوان كممثل وحيد للشعب الصيني، وبعد الانفتاح الأمريكي على الصين مطلع السبعينات من القرن الماضي، سارت اليابان في هذا التوجه، وانفتحت على الصين، لكن ظلت علاقات الدولتين في إطار الانفتاح الدبلوماسي فقط. لكن حدث تطور كبير في علاقات الدولتين عندما صدرت دراسة مشتركة حول جرائم الحرب اليابانية في الصين عام 1937. وظل أرخبيل جزر سينكاكو، الموجود في بحر الصين الشرقي، مثار خلاف بين الدولتين. وقد سيطرت اليابان على هذه الجزر أواخر القرن التاسع عشر، ووضعتها الولايات المتحدة تحت سيطرتها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم أعادتها إلى اليابان عام 1972 بوصفها جزءاً من محافظة أوكيناوا اليابانية. وتقول الصين إن هذه الجزر جزء من ترابها الوطني. ورغم ذلك ظلت علاقات الدولتين طبيعية. وقد وافقت اليابان على المشاركة في مشروع «الحزام والطريق الصيني». غير أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد خلطت الأوراق في العالم، إذ ظهر على إثر تلك العملية محوران عالميان، الأول: غربي تقوده الولايات المتحدة، ومن خلفها حلفاؤها في الشرق والغرب، والآخر: روسي صيني، ومعهما دول مجموعة «بريكس». وسرعان ما تبدّلت السياسة اليابانية تجاه الصين، وظهر الحديث عن تخوف ياباني من قيام الصين بعملية عسكرية ضد اليابان على نمط العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

وفي نفس الوقت فقد بدأت الحكومة اليابانية تسعى إلى بناء جيش قوي لمواجهة الأخطار القادمة من قبل الصين، لكن ذلك يتطلب تعديل الدستور، وبخاصة المادة التاسعة منه من أجل إفساح المجال أمام وجود إطار دستوري لبناء قوات عسكرية كبيرة. وأعلنت الحكومة اليابانية عن وثيقة التحول في استراتيجيتها الأمنية، حيث وافقت على إصلاح شامل للسياسة الدفاعية، بما في ذلك زيادة كبيرة في الإنفاق، ومن بين التغييرات الملحوظة، التحرك لاكتساب قدرات «الهجوم المضاد»، أو القدرة على ضرب قواعد العدو بصواريخ بعيدة المدى. والتنسيق مع الولايات المتحدة في مثل هذه الظروف. والوثيقة الاستراتيجية الجديدة لا تذكر الصين بشكل مباشر كتهديد، لكنها تقول إن الموقف الدبلوماسي لبكين وأنشطتها العسكرية تثير «قلقاً خطيراً» وتمثل «التحدي الاستراتيجي الأكبر» غير المسبوق لضمان السلام في اليابان والمجتمع الدولي.

وقد أشارت وثيقة الاستراتيجية الجديدة إلى أن الدول المحيطة باليابان قد أحرزت تقدماً كبيراً في التقنيات المتعلقة بالصواريخ من الناحيتين النوعية والكمية. وقالت إن الهجمات الصاروخية على اليابان أصبحت الآن «تهديداً ملموساً»، وتحتاج اليابان إلى قدرات تتجاوز دفاعات الصواريخ الباليستية الحالية لحماية نفسها وتحسين قدراتها في الفضاء والأمن السيبراني. وهذه الوثيقة هي إعلان صريح على الاتجاه الجديد في اليابان والمتمثل في بناء جيش قوي يمتلك أخطر وأحدث الأسلحة، وقادر على حماية اليابان أرضاً وبحراً وجواً. ومؤخراً صدر بيان أمريكي ياباني مشترك، أكدت فيه الولايات المتحدة التزامها بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية. وقد دانت الصين البيان ودعت إلى التخلي عن أفكار الحرب الباردة وعقلية التحيز الإيديولوجي.

يبدو أن العالم يتجه إلى عسكرة اقتصاده، مع أن الحرب النووية أمر مستحيل الوقوع، وذلك لما للأسلحة النووية من طاقات تدميرية شاملة، ولكن لا يستبعد نشوب الحرب في قارة آسيا، يستخدم فيها المتحاربون الأسلحة التقليدية.

إن الآراء الموجودة في هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى