الوجه القبيح لحرب السودان
كتب عثمان ميرغني في صحيفة الشرق الأوسط.
على مر التاريخ، كانت الحروب دائماً أرضاً خصبة للفظائع والأعمال الوحشية والقسوة التي تنتهك قوانين الحرب والخلق الإنساني السوي، وهي ممارسات لا يمكن تبريرها بأي شكل، بل تتوجب إدانتها والمحاسبة عليها.
السودانيون الذين عانوا في الحرب الراهنة صنوفاً من الجرائم والانتهاكات التي نُسب أكثرها إلى «قوات الدعم السريع»، صدموا عندما نُشر قبل أيام مقطع فيديو لمسلحين نسبوا أنفسهم إلى الجيش وهم يعرضون بفرح رأسين مقطوعين لشخصين قالوا إنهما ينتميان لـ«الدعم السريع». وقوبل هذا الفعل الشائن بإدانة واسعة مستحقة، ودعوات للمحاسبة.
الجيش سارع إلى إصدار بيان واصفاً محتوى الفيديو بالصادم ومعلناً أنه سيجري تحقيقاً في الأمر وسيحاسب المتورطين إذا أثبتت نتائج التحقيق أنهم يتبعون لقواته. وأكد تقيد القوات المسلحة التام «بقوانين وأعراف الحرب وقواعد السلوك أثناء العمليات الحربية».
من جانبها وصفت «قوات الدعم السريع» العمل بأنه «سلوك إجرامي متطرف» متهمة من وصفتهم بـ«ميليشيا البرهان وكتائب النظام البائد». ومضت إلى القول إن الجريمة «حدثت على أساس عرقي وجهوي»، وهي لغة التأجيج التي استخدمتها جهات أخرى أيضاً سعت لتوظيف الجريمة نحو أبعاد عرقية وقبلية لا يحتاجها البلد في هذه الظروف العصيبة، ولا في أي وقت.
حجم التضارب في الروايات والتفسيرات بشأن مقطع الفيديو يجعل من الضروري إجراء تحقيق جدي وعاجل، ويتطلب من الجميع انتظار النتائج وعدم استغلال هذه الجريمة للتأجيج غير محسوب العواقب.
من أمثلة هذا التضارب ما قيل في البداية عن أن الجريمة ضحيتها شابان، وهو ما ورد في بيان الجيش، لكن «الدعم السريع» في بيانه تحدث عن ثلاثة أشخاص. وعلى الرغم من أن الأشخاص الذين ظهروا في الفيديو المتداول ونسبوا أنفسهم إلى الجيش، تحدثوا على أساس أن الرأسين المبتورين لعنصرين من «الدعم السريع»، فإن جهات أخرى من بينها «الدعم السريع» ذاته نفوا ذلك وقالوا إن القتيلين مواطنان بريئان كانا في طريق العودة إلى مناطقهما عبر مدينة الأبيض حيث اعتقلا وفقاً «لقانون الوجوه الغريبة» بمعنى أنهما غريبان، في حين أن البعض يفسر ذلك على أنه يعني استهداف من يشتبه في أنهم من حواضن اجتماعية في إقليم دارفور تساند «الدعم السريع».
آخرون ألقوا ظلالاً من الشك على الكلام المتداول بشأن هوية القتيلين وقالوا إنهما من قرية في جنوب منطقة الجزيرة وسط السودان، وإنهما كانا عائدين من النيجر ومعهما بعض الذهب عندما استوقفهما مسلحون قالوا إنهم من «الدعم السريع» ونهبوا ما كان بحوزتهما قبل قتلهما والتمثيل بجثتيهما.
وعلى الرغم من أن هوية القتيلين ومنفذي الجريمة تبقى مجهولة، على الأقل بشكل رسمي حتى اللحظة، فإننا رأينا من يشطح في الكلام والتأويل فينسب الضحيتين إلى مكون قبلي معين من دون علمه حتى باسميهما، بينما ذهب آخرون إلى القول إن مرتكبي الجريمة من الكيزان و«كتائب الظل» التابعة لهم من دون أن يوضحوا كيف توصلوا إلى تحديد انتمائهم الحزبي.
الواضح أن الموضوع بات يستخدم في إطار تصفيات الحسابات بين الخصوم في ساحة مشدودة باستقطابات زادت حدتها مع اندلاع الحرب التي قسّمت السودانيين بشكل غير مسبوق، وفرقتهم بين مؤيد للجيش باعتباره المؤسسة الوطنية والمهنية التي لا بد من الالتفاف حولها في هذه الظروف، والمعادين له الذين يدمغونه بـ«جيش الكيزان والفلول». وفي ظل هذه الاستقطابات لا يفوت معارضو الجيش فرصة لانتقاده والتقليل من شأن أي انتصارات يحققها.
الخطورة أن الذين سارعوا لتوظيف الفيديو لبث تأويلات من دون توثق أو تبصر، ولم يروا فيه إلا وسيلة وفرصة لتصعيد هجومهم على الجيش، لم يدروا، أو أن بعضهم ربما كان يدري، أنهم يساهمون في التأجيج وصب المزيد من الزيت على نار الحرب. فها هي بعض المجموعات تستخدم المقطع لا للتأجيج ضد الجيش فحسب، بل ضد أهل الشمال بدوافع عنصرية وقبلية ويستدعون زمرة خارجية من مجموعات قبلية من خارج السودان «للانتقام».
من مصلحة الجيش إجراء تحقيق جاد في الجريمة وإعلان النتائج في أسرع وقت، ومحاسبة منفذيها إن كانوا من منسوبيه. فالحرب ستنتهي وستبقى آثارها التي ستحتاج إلى معالجات لفترة طويلة، ومن المهم للجيش أن يثبت حرصه على قوانينه ولوائحه، وتمسكه بالتقاليد الراسخة والقيم السودانية الأصيلة. وهو كمؤسسة سيحتاج إلى ممارسة أقصى درجات الانضباط في فترة الحرب وما بعدها، لأنه سيحتاج إلى هذا الانضباط في فترة إعادة التأهيل وإدماج قوات الحركات المسلحة، أو أي مجموعات أخرى غير نظامية قاتلت إلى جانبه في هذه الظروف.
التحقيق إذا برأ ساحة الجيش ومنسوبيه فهو سيصب في صالحه للرد على الحملة الممنهجة ضده، وحتى إذا ثبت تورط أفراد منه في هذا العمل الشائن فإن إعلان نتيجة التحقيق سيؤكد مصداقيته وجديته في التصدي لأي تفلتات. هناك جيوش كثيرة واجهت تفلتات من بعض جنودها إبان فترات الحروب بما في ذلك الجيش الأميركي، وأحداث سجن أبو غريب أحد النماذج، وكذلك الجيش البريطاني وما واجه بعض جنوده من اتهامات بارتكاب تجاوزات في مدينة البصرة. وهناك أمثلة أخرى أكثر من أن تحصى في مقال، لكن ما كان يفرق بينها هو مدى جدية الحكومات والجيوش في التصدي لها، بالتحقيقات الجدية، والمحاسبة لمن يثبت تورطهم.
هناك أيضاً فرق بين التفلتات الفردية والسلوكيات الممنهجة، وهو ما يميز بين الجيوش النظامية المنضبطة التي تعمل وفقاً للوائح وقوانين، والميليشيات والحركات المسلحة التي تقاتل بلا عقيدة وبلا مبدأ أو ضوابط. وفي حالة الجيوش النظامية فإنه على الرغم من أن الغالبية العظمى من الجنود يكونون ملتزمين بضوابط الحرب، فإن التصرفات المنفلتة للبعض قد تشوه سمعة الجيش بأكمله. من هنا يتوجب الحرص على المساءلة والمحاسبة، وهو المطلوب من الجيش السوداني.