رأي

النووي الإيراني والسعودية وتهميش الفلسطينيين.

كتبت دلال البزري في العربي الجديد.

كلمات سريعة نطق بها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على قناة أميركية، تضع حدّاً لتخمينات، وأخبار “المصادر”، غير المؤكّدة دائماً، عن لقاءات، علنية وسرّية بين الإسرائيليين والسعوديين… وتغلق باب التأويلات. نعم، قال بن سلمان إنه يسعى إلى التطبيع مع إسرائيل. وشدّد على “ضرورة التوصّل إلى حل شامل للقضية الفلسطينية”، وعبْر المفاوضات. وفي معرض “شرحه” معنى هذا “الحل الشامل”، وتدليله على “جدّيته”، أعربَ عن أمله بأن تؤدّي مفاوضاته مع الإسرائيليين إلى “تخفيف معاناة الفلسطينيين”. وأفاض بشرح هذا الأمل، مضيفاً إليه: “تحسين حياة الفلسطينيين حقا”، و”تلبية احتياجات الفلسطينيين”. سأله المحاور التليفزيوني إن كان ذلك ممكناً في ظل حكومة تمسك بها أحزاب اليمين المتطرّف، فأجاب: “نحن لا نتدخّل في من يدير شؤون كل بلد”…

بعد أيام، كان مبعوثٌ سعودي، نايف السديري، ينوي فتح قنصليةٍ سعوديةٍ في القدس الشرقية، يزور مقر السلطة الفلسطينية في رام الله. يستقبله رئيسها محمود عبّاس ووزير خارجيتها. والهدف من الزيارة تقديم أوراق اعتماد السفير إلى عبّاس، “وقد يزور الأقصى”… وليس مفهوما ما هي “الإجراءات الإدارية” التي سهّلت فكرة القنصلية، وإمكان تطبيقها. في وقت تشتعل القدس بمستوطنين يستبيحون مسجد الأقصى وشرطة إسرائيلية تشرف على هذه الاستباحة… لكن السفير السعودي “طمأن” الرئاسة الفلسطينية على “مواقف بلاده الثابتة والداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة” ثم “أشاد بعمق العلاقات التاريخية والأخوية المتجذّرة التي تربط البلدين الشقيقين”، وأن تكون هذه الزيارة “فاتحة لتعزيز المزيد من العلاقات في جميع المجالات”، فاطمأنت السلطة فعلاً، وأشادت بالخطوة… إلخ.

ولا يسع المرء في حالة كهذه، سوى تذكّر مشروع سعودي عمره عقدان، قدّمه الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، إلى إحدى القمم العربية: انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلها إسرائيل في حرب 1967، بما فيها الجولان السورية، وحل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشرقية. وعند ذلك، عند ذلك فقط، توقّع المملكة السعودية، ومعها العرب اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل، و”علاقات طبيعية معها”… المقارنة بين كلمات محمد بن سلمان وسلفه الملك فهد، تبيّن بوضوح أن الحكم السعودي تغير، كأنه تحرّر من فلسطين.

النووي السعودي أول شروط تتفاوض عليها الرياض مع أميركا – إسرائيل، ترى نوويا إيرانيا وتتناسى النووي الإسرائيلي

ما الذي تغيّر؟ بالقليل الذي ندركه، تغير الزمن: اتفاقات تطبيع عربية بالجملة مع إسرائيل. بعد الأردن ومصر، كرّت سبحة جديدة، أبطالها الإمارات، البحرين، المغرب، السودان… ومحاولات سرّية للتطبيع بين ليبيا وإسرائيل. وفي ليبيا، منيت محاولتها السرّية بفشل ذريع وغضب شعبي هائل، بعدما سُرِّب خبرها، قبل “إنضاجها”.

أعلنها محمد بن سلمان على القناة الأميركية نفسها، محاولاً، في الوقت ذاته، أن يكون “موضوعيا”. عبّر عن قلقه “إزاء حصول أي دولة على سلاح نووي”، واصفاً هذا الحصول بـ”السيئ”. وأضاف بصراحة: “إذا حصل الإيرانيون على سلاح نووي، سيكون علينا أن نحصل على واحد”. النووي السعودي هو أول شروط تتفاوض عليها الرياض مع أميركا – إسرائيل، ترى نوويا إيرانيا وتتناسى النووي الإسرائيلي.

الثاني من شروط الأمير: توقيع معاهدة دفاع مشترك مع الأميركيين، بموجبها، تحمي أميركا السعودية من أي تهديد عسكري. أما الشرط الأخير فهو فتح سوق السلاح الأميركي المتطوّر (نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية) أمام المشترين السعوديين. هذا ما تريده الرياض من أميركا – إسرائيل، كي ترفع التطبيع مع إسرائيل من مستوى نصف السرّي ونصف الرسمي إلى العلني والرسمي.

ترسو المنطقة (مؤقتاً؟) على قوتين إقليميتين، إيران والسعودية، لهما أياد ناعمة خشنة في استخدام القضية الفلسطينية واحدةً من أوراق التفاوض، من أجل تمتين قوتيهما

وللأربعة، الأميركيين الإسرائيليين السعوديين فلسطينيي السلطة في رام الله مصلحة في هذه الاندفاعة: بايدن لكي يوقف التمدّد الصيني، ويكسب في الانتخابات المقبلة. نتنياهو لكي يمحي دعاوي الفساد ضده، ويصدّ الاحتجاجات على محاولاته ضرب استقلالية القضاء. بن سلمان ليستمر عهده في مشروعه “البراغماتي”، القائم على قوة اقتصادية – عسكرية إقليمية مأمونة، تقود على الأقل العالم العربي بسياسة مصالحها، ترأس مساره نحو التطبيع. وأخيراً مصلحة السلطة الفلسطينية، لكي تتمكّن من منافسة الجناح الفلسطيني الممانع، الإيراني، (حماس، جهاد إسلامي، جبهة شعبية) في التوكيل الإقليمي، فتغذّي بذلك خزينتها، بعدما أصابتها القلّة، ويكون لضعفها معنى.

هكذا ترسو المنطقة (مؤقتاً؟) على قوتين إقليميتين، إيران والسعودية، لهما أياد ناعمة خشنة في استخدام القضية الفلسطينية واحدةً من أوراق التفاوض، من أجل تمتين قوتيهما. ضعْ جانباً الأميركيين والإسرائيليين، الذين لا يدّعون أبداً تأييدهم الحقوق الفلسطينية. هذه القضية ضعيفة في تاريخهم ورؤيتهم ومصالحهم في ضمائرهم… يبقى إيران والسعودية.

استطاعت الأولى أن تخرق مجتمعات عربية مشرقية بمليشيات مسلّحة، بذريعة تحرير فلسطين. وهذه “الرؤية والاستراتيجية” حيكت بالتنظيم والتدريب والتمويل والأيديولوجيا. ولكنها استُهلكت فتآكلت. بسبب هذا الوقت الطويل بالذات، الذي حوّل الفلسطينيين إلى درع النووي الإيراني، فكانت معاركها بعيدة عنهم، وتدهورت أحوالهم على كل الصعد، وحول أبسط حقوقهم. خذْ مثلاً واحداً: المليشيات الإيرانية التي حاصرت مخيم اليرموك الفلسطيني في سورية منذ عشر سنوات… وفتكت بأهله، جوّعتهم وقتلتهم وهجّرت الأحياء من بينهم. ومع ذلك، أو ربما على الرغم من ذلك، لو حصرت إيران نفسها بـ”الجهاد” فقط من أجل فلسطين لما توصلت إلى السلاح النووي.

ستقع المنطقة بين نووييَن متوازيَين، والقضية الفلسطينية أداتهما: قديم، تطلقه إيران، ونووي تسعى السعودية لنيله

المهم، أنه، بعد هذه القناة الإيرانية، تأتي المبادرة التطبيعية السعودية أخيرا، لترسم قناة “فلسطينية” لنفسها، موازية للإيرانية، وتتبرّع لأهل السلطة الفلسطينية بأموال هي بحاجة ماسّة لها، فتسكت هذه الأخيرة، لأنها لا تريد تضييع “هويتها” السياسية في مواقف هي أقرب إلى المستحيل، بعدما أبرمت كل هذه الاتفاقيات القاسية مع إسرائيل، ومع ذلك، لم تحصل منها إلا على فُتات.

سنشهد، بعد هذه المبادرة، نشاطاً سعودياً مكثفاً، ينافس الإيراني بقوته وحجمه، يضع القضية الفلسطينية على السكّين. لا تضعُف حدّته أمام كلام ديبلوماسي، مثل كلام “السفير” السعودي الجديد في القدس، أو البروباغندا المنظّمة التي ينفّذها بمهارة عالية الناطقون الإعلاميون باسم السعودية. وستقع المنطقة بين نووييَن متوازيَين، والقضية الفلسطينية أداتهما: واحد قديم، نووي تطلقه إيران، أصبح مكشوفاً، ومستنزفاً، بوعده تحرير كامل التراب الفلسطيني أثناء اختراقه الدول العربية المناسِبة. ونووي تسعى السعودية لنيله، بمؤازرة عربية، إلا الدول المخترَقة. تصالح إسرائيل، مع “تحسيناتٍ” و”تخفيفاتٍ”. وهذه الأخيرة عبارات ترامْبية (دونالد ترامب)، ملغَّزة، لا شيء واضحا فيها، غير دوام شقاء الفلسطينيين.

بين لغتين، أيديولوجية و”براغماتية” محوران، قطبان، مكْلفان لمحكومي المنطقة، فلسطينيين وغير فلسطينيين، ومربحان لحاكميهم. وعلى كل حال، هل سُئل أولئك المحكومون؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى