الموقف الفرنسي بين النيجر وتونس.
كتب محمد خليل برعومي في العربي الجديد.
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في كلمته أمام السفراء الفرنسيين المجتمعين في باريس يوم 28 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، إن السفير الفرنسي لدى النيجر لن يغادرها، رغم الضغوط من قادة الانقلاب هناك وتحذيرهم من مغبة بقائه في نيامي. وجدد ماكرون القول إنه سيواصل دعم رئيس النيجر المطاح محمد بازوم، الذي وصف قراره بعدم الاستقالة بأنه “قرار شجاع”، مؤكّدا أن سياسة الإليزيه في النيجر واضحة، ويقع استمدادها من شجاعة الرئيس بازوم ومبادئ فرنسا ومصالحها العسكرية، حسب قوله، واعتبر أن دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) إذا تخلّت عن بازوم فإن رؤساءها سيكونون معرّضين للخطر.
دفاع شرس عن ديمقراطية النيجر، ورفض قطعي للتعاطي مع سلطات الانقلاب التي أوجدت لنفسها حاضنة شعبية من خلال تحّديها الموقف الغربي والأميركي، خصوصا مواجهتها فرنسا بما تمثله في المخيّلة الأفريقية من قوة استعمارية ناهبة للثروات وسلطة متحكّمة من وراء البحار في خيارات مستعمراتها السابقة وسياساتها، سواء عبر حضورها الاقتصادي المالي أو عبر الوجود العسكري، أو من خلال الدفع بحلفائها إلى الحكم ودعمهم للحفاظ على مصالحها التاريخية والاستراتيجية.
زاد من القلق الفرنسي والغربي عموما حضور الأثر الروسي في أحداث النيجر وفي الساحة الأفريقية عموما أخيرا.
ورغم تصريح الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، عقب الانقلاب، بأن بلاده تؤيد عودة سيادة القانون بشكل عاجل وتدعو كل الأطراف إلى ضبط النفس وتريد العودة إلى المسار الدستوري، إلا أن ما عبّر عنه قائد “فاغنر” قبل أن يلقى حتفه، يفغيني بريغوجين، في تسجيلٍ منسوب إليه، بقوله إن ما حدث في النيجر هو لمكافحة المستعمرين، في إشارة إلى فرنسا، يمثل تأييدا صريحا للانقلاب العسكري.
لطالما حضت فرنسا المتمسكة بالديمقراطية والشرعية الدستورية والانتخابية في النيجر على الانقلابات في أفريقيا وتغيير الأنظمة السياسية بغير الآليات القانونية
كما كانت مظاهر الدعم الشعبي للانقلاب بحضور الأعلام الروسية والاحتفاء بقوات فاغنر ناقوس خطر للمعسكر الغربي والأميركي الذي يسعى إلى محاصرة تمدّد بوتين في العالم، خصوصا في مناطق الجغرافيا التي تعتبرها هذه القوى حديقتها الخلفية وبقرتها الحلوب.
لطالما حضت فرنسا المتمسكة بالديمقراطية والشرعية الدستورية والانتخابية في النيجر على الانقلابات في أفريقيا وتغيير الأنظمة السياسية بغير الآليات القانونية، حيث تفيد إحصائيات بتورّط باريس في عشرات الانقلابات أو محاولات الانقلاب خلال الستينيات، كما أن أغلب عمليات قلب أنظمة الحكم في أفريقيا جنوب الصحراء دبّرت وخطط لها في دول فرانكفونية وتحت رقابة أو رعاية فرنسية.
انقضّ الرئيس التونسي قيس سعيّد، قبل سنتين، على كل السلطات في الدولة، وألغى بأمر القوة عمل البرلمان، ثم غيّر الدستور على هواه، وحاصر قوى المعارضة، ووضعها تحت القصف الأمني والقضائي المفبرك، ثم سجن أهم رموزها، وفي مقدّمتهم الثمانيني رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي. ورافق ذلك انتهاك للحقوق واعتداء على الحريات الخاصة والعامة في مقابل رفض أغلب الطيف السياسي والجمعوي التونسي “إجراءات” الرئيس المزعومة وما صاحبها من قمع سياسي وأمني. ومع كل ما حصل في تونس من انتكاسة لربيعها الديمقراطي، لم تنبس فرنسا ببنت شفة تنديدا بذلك، ولم نسمع رئيسها ماكرون يتمسّك بعودة المؤسّسات الشرعية أو يشجب حلّ قيس سعيّد البرلمان واعتقال رئيسه أو تركيعه المؤسسة القضائية أو تدجينه الإعلام الرسمي ومضايقاته المؤسّسات الإعلامية والصحافيين. على خلاف موقف الصحافة الفرنسية التي انحازت للديمقراطية التونسية منذ البداية، كانت باريس الرسمية حذرة، وتتابع تطور الأوضاع عن كثب، وترقب موازين القوة في الساحة السياسية.
على خلاف موقف الصحافة الفرنسية التي انحازت للديمقراطية التونسية منذ البداية، كانت باريس الرسمية حذرة، وتتابع تطور الأوضاع عن كثب
في السابع من أغسطس/ آب سنة 2021 اتصل الرئيس إيمانويل ماكرون بنظيره التونسي قيس سعيّد، ليؤكّد له أن “فرنسا تقف إلى جانب تونس والشعب التونسي في هذه اللحظة الحاسمة من أجل سيادتها وحريتها”، كما أعرب ماكرون عن رغبته في أن تتمكّن تونس بسرعة من الاستجابة للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تواجهها.
ويؤكد موقف فرنسا من انقلابي تونس والنيجر كيلها بمكيالين أمام أحداث سياسية متشابهة في حيز زمني متقارب، بما يجعل من ادّعاءاتها بالدفاع المبدئي عن الديمقراطية تتساقط بين تناقضاتها وتضارب تصريحاتها التي تؤكّد دورانها خلف مصالحها والنظر وفقها إلى العالم، خصوصا لدول الجنوب.
من شكر وذم كذب مرّتين، وباريس كذّبت نفسها وشعاراتها الجذّابة مرات عديدة بسبب ثنائها وتعاملها مع أنظمة استبدادية/ انقلابية في بعض الدول، من دون خجل أو مواربة، في وقتٍ تندّد فيه وتذم أنظمة انقلابية في مناطق أخرى، بما يكشف انتهازيّتها وعدم توازنها.