المفارقة بين الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب على سوريا
كتب نزار عبد القادر في “اللواء”:
وضع الحشد الروسي حول اوكرانيا وبداية عملية الغزو لأراضيها من جميع الحدود مع روسيا وبيلاروسيا والبحر الأسود، بالإضافة إلى شن عمليات إنزال واسعة في العمق الأوكراني، الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي امام اختبار صعب ومعقد، لم يكونا مستعدين له منذ تأسيسهما.حيث فرضت الحرب على حلف شمالي الأطلسي القائم منذ 73 سنة القيام بتحركات عسكرية باتجاه أربع دول أعضاء في الحلف ومجاورة لأوكرانيا، كما أن تطوّر الأوضاع الميدانية قد فرض على الحلف إنذار قدراته الرادعة في القارة الأوروبية كتدبير احتياطي، وخصوصاً بعد أن أمر فلاديمير بوتين بوضع الترسانة النووية الروسية في حالة تأهب وإنذار، من خلال إصداره أمراً مباشراً إلى القيادات العسكرية الروسية الممثلة بوزير الدفاع ورئيس أركان الجيوش الروسية.
يبدو أن قرار بوتين بوضع القوات النووية الروسية في حالة تأهب وإنذار لم يفاجئ القيادات السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة أو في الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي، حيث إنهم يُدركون من خلال مواقف مسبقة عبّرت عنها القيادات الروسية، وخصوصاً بوتين ورئيس أركان القوات الروسية الجنرال فاليري غيراميسوف بأنهما لا يجدان ان هناك ضرورات للفصل بين القوى النووية الاستراتيجية والقوات الروسية التقليدية، على غرار ما هو سائر في نظريات الحرب والعقيدة القتالية المعتمدة في الدول الأساسية في حلف شمالي الأطلسي. هذه النظرية المعتمدة في الجيوش الأميركية هي بالذات التي دفعت واشنطن إلى الإعلان بأن حالة التأهب النووي التي أعلنها بوتين لم تغيّر الوضع لجهة الاستعدادات النووية للولايات المتحدة.
شكلت عملية الغزو الروسي لأوكرانيا صدمة كبرى للمجتمعات الأوروبية حيث شعرت الشعوب بأن الحرب وويلاتها لا تجري في مسارح عمليات بعيدة كالعراق وافغانستان وسوريا وغيرها بل تجري داخل أوروبا نفسها، وبأن المدن التي تشهد عمليات الغزو والقصف بالطيران والصواريخ الباليستية هي مدن أوروبية، وبأن مئات آلاف اللاجئين المدنيين الباحثين عن ملاجئ آمنة خارج حدود دولتهم هم أوروبيون.
في رأينا هذه الحقائق هي التي دفعت مختلف القيادات في الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي إلى اتخاذ مواقف سياسية صارمة لإدانة الغزو الروسي. كما دفعت مختلف الحكومات إلى إقرار توجيه مساعدات عسكرية فورية إلى أوكرانيا، تُمكّنها من الصمود ومواجهة الغزو وإفشاله. ويبدو بأن عدم انتساب أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ولحلف شمالي الأطلسي، لن يحول دون مشاركة أية دولة أوروبية، حتى من الدول التي تتمسك بمبدأ الحياد على غرار السويد وفنلندا وسويسرا في إدانة الغزو والمشاركة في الالتزام بنظام العقوبات القاسي والواسع المعتمد لمعاقبة روسيا والضغط عليها لإنهاء عدوانها على أوكرانيا.
مع الأسف الشديد يمكن للعالم خارج أوروبا أن يشاهد ويقر بأن تعرّض المواطن الأوروبي لآلام وويلات الحرب يختلف عن تعرّض المواطنين العرب في العراق وسوريا، حيث تمرّ الويلات والمجازر دون أن تثير أية ضجة أو إدانة، على غرار ما يُعبّر عنه الآن من إدانات وردود فعل تجاه المواطنين الأوكرانيين الهاربين من جحيم المعارك.
لا يمكن التوقف عند قرارات الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية بتقديم مساعدات عسكرية فورية للجيش الأوكراني، وخصوصاً لجهة شحن الصواريخ المتطورة المضادة للدبابات أو الطائرات، بل يجب التوسع إلى رؤية التداعيات التي يمكن ان تتسبب بها مختلف العقوبات التي فرضت على روسيا، والتي قد تتوسع لتشمل حليفة موسكو بيلاروسيا، سواء على الصعيد الاقتصادي أو المالي، حيث يمكن أن تؤدي عملية حظر روسيا من استعمال نظام «سويفت» المصرفي إلى عزلها بشكل كامل عن الاقتصاد العالمي.
ويبقى من اللافت جداً دعوات ما يقارب عشر دول من الاتحاد الأوروبي بضم أوكرانيا للاتحاد بصورة فورية، في الوقت الذي كانت تأخذ عملية انضمام أية دولة سنوات طويلة، على سبيل المثال كانت كرواتيا آخر الدول التي انضمت للاتحاد، وقد استغرقت هذه العملية عشر سنوات كاملة.
تظهر ردود الفعل التي اظهرتها أوروبا على عملية غزو أوكرانيا بأن القارة ما زالت تعيش في حالة نفسية تشابه الأجواء التي كانت سائدة وتفرّق بين الشرق الأوروبي وغربه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث شكلت روسيا وبعدها الاتحاد السوفياتي عالماً آخر يعيش حالة من العزلة والعداء مع غربي أوروبا. ولا بدّ في هذا السياق من استعادة ولادة نظريات الحرب الشاملة التي ولدت في اوروبا، والتي تركزت جمعيها على الطوائف والاستراتيجيات الممكنة لإحتواء الخطر العسكري القادم من البر الأوروبي – الآسيوي الذي يُشكّل أراضي الدولة الروسية، سواء من خلال نظرية «قلب الأرض» التي أوجدها ماكندر، مروراً بنظرية ماهان للسيطرة على البحار والمحيطات المحيطة بالبر الأوروبي – الآسيوي، ووصولاً إلى نظرية الحرب الجوية مع ميتشل وسافارسكي، إلى النظرية النووية والرعب المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. شكلت عملية احتواء روسيا الهاجس الاستراتيجي الدائم للقوى الغربية، وخصوصاً منذ غزو نابليون لروسيا مروراً بالحرب العالمية الثانية وغزو هتلر، وبالحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي، والتي انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي، وسيطرة الولايات المتحدة على العالم.
وفي عهد الرئيس بوتين بدأت روسيا مسيرة العودة والحنين للعب دورها كقوة دولية قادرة على استعادة جزء من نفوذها زمن الاتحاد السوفياتي، وبالتالي العمل على وقف الزحف الغربي باتجاه حدودها، سواء عبر توسيع الاتحاد الأوروبي أو ضم دول أوروبا الوسطى والمحيطة بروسيا إلى حلف شمالي الأطلسي، الأمر الذي يعتبره بوتين تهديداً مباشراً لأمن روسيا، والذي بات يخطط ويعمل فعلياً على تغييره في جمهوريات البلطيق وجورجيا وأوكرانيا، ومن خلال دور روسيا الجديد المؤثر في امدادات الطاقة للقارات الأوروبية أو على الصعيد العالمي.
لا بدّ لنا في العالم العربي من التوقف امام المفارقة الكبرى المتمثلة بردود فعل الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي والهبّة الجماعية لعزل روسيا وإدانة غزوها لأوكرانيا، ومدها بالاسلحة المتطورة لمواجهة الغزو الروسي، وبين حالة اللامبالاة التي وقفتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة تجاه التدخل الروسي الكثيف في الحرب السورية، وقصفها الوحشي للمدن والمناطق التي سيطرت عليها فصائل الثورة.. وذلك ضمن استراتيجية عسكرية شاملة لنصرة بشار الأسد ضد شعبه المطالب بإصلاح النظام.
استعملت روسيا ترسانتها العسكرية الكاملة لقصف المدن السورية وقتل وتهجير سكانها، دون ان يثير ذلك حفيظة الحكومات أو الشعوب في أوروبا وفي الولايات المتحدة، بالرغم من تصريحات بوتين عن تجربة كل الترسانة الروسية.
ولا بدّ أيضاً من تجاهل الدول الغربية لعمليات تهجير الشعب السوري بالملايين سواء إلى الداخل السوري أو الدول المجاورة، هذا بالإضافة إلى إجهاض الثورة والتي كانت على بعد أسبوعين كحد أقصى من هزيمة النظام وبالتالي تحرير الشعب السوري وإقامة حكم ديمقراطي في البلاد، لولا التدخل الروسي في الحرب في آخر أيلول عام 2015.
وفي السياق نفسه لا بدّ من الإشارة إلى المؤامرة المستمرة والمشتركة بين روسيا وإسرائيل ضد الدولة السورية والشعب السوري، حيث يجري باستمرار قصف جميع المناطق السورية من قبل القاذفات الإسرائيلية بتشجيع وتحت نظر وحماية القوات الروسية العاملة في سوريا، والتي تملك أكبر شبكة صواريخ للدفاع الجوي وأكثرها تطوراً.