صدى المجتمع

اللبنانيون في هجرة نفسية… حالة إنكار كي نعيش أكثر

تفاقم عدد الذين غادروا لبنان خلال عام 2021، وكان الأمر أشبه بتصاعد سعر صرف الدولار الأميركي أمام الليرة اللبنانية. ولو لم يتأثر العالم بجائحة كورونا عام 2020 لكان العدد الإجمالي قد تجاوز المئتي ألف مغادر خلال السنوات الأربع المنصرمة.
وبحسب “الدولية للمعلومات”، كان العدد لا يتجاوز الثمانية عشر ألف شخص عام 2020، إلا أنه لامس حدود الثمانين ألفاً في منتصف تشرين الثاني من العام الجاري (77777).
خيار الهجرة فرض نفسه على اللبنانيين، ولاسيما منهم الشباب، إذ إن الأزمات الاقتصادية، وغياب الفرص والبحث عن مستقبل وعيشٍ كريم، كلها أسباب كامنة للهجرة.
إن تدنّي قيمة دخل الفرد بالعملة الصعبة أثّر على قيمة العقود الخارجية، إذ إن العديد من الشركات والأفراد باتوا يستغلون اللبنانيّ المعروف بقدراته وكفاءته، ومع ذلك لم يردعه هذا الامر عن السفر.
و أظهرت الإحصاءات الصّادرة عن الصّندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن العدد الصّافي للعاطلين عن العمل زاد نحو 50,435 عاملًا. فقد بلغ عدد الأجراء الّذين تركوا أعمالهم خلال 2019- 2021 زهاء 65,676 الفًا ممن هم مضمونون من دون احتساب الذين تركوا أو جرى صرفهم من أعمالهم وهم من غير المنتسبين الى الصندوق.
وهكذا ارتفعت نسبة البطالة الّتي أصبحت تقارب 35% من حجم القوى العاملة المقدّر عددها بنحو 1,340 مليون عامل، أي أنّ عدد العاطلين عن العمل يراوح ما بين 470 الفًا و500 الف، استناداً الى ما جاء في دراسة “الدولية للمعلومات” أيضاً.
ليس الغرابة في مَن يغادر، إنما المستغرب كيف يرضى اللبنانيون العيش في هذه الظروف، وما هي العوامل التي تجعلهم مصرّين على البقاء أو على تسيير أمورهم رغم الصعوبات؟

يعيش اللبنانيون حياتهم وكأنهم مخدرون، منهم من هو على يقين بأن سعر صرف الدولار إلى ارتفاع ولكنه لا يبادر إلى تصريف مدخراته من العملة الوطنية. والأمر لا يمكن تصنيفه في خانة التأقلم مع الواقع. فالواقع في لبنان غير ثابت، وبخاصة أن وتيرة الأحداث سريعة ومؤشر الانهيار تصاعدي.
لا يتقبل المواطنون فكرة ارتفاع الأسعار، بيد ان الأمر لم يشكل أرضية شعبية معارضة، بل دفع بعضهم إلى تشغيل “حاسوبه الدماغي” كي يصرف السعر الجديد للبضائع بحسب سعر السوق السوداء علّه يخفف وطأة الكارثة عليه، متناسياً قيمة ما يتقاضاه من راتب بالعملة المحلية.
بعض اللبنانيين يعيش على الأحلام، ويستعمل إسقاطات الماضي على الحاضر. الدولار الذي لامس الـ 3000 ليرة في بداية التسعينات ليتراجع ويستقر على 1500 ليرة، يمكن أن يعيد الكرّة بحسب وجهة نظره بعد فترة وجيزة.
نفسياً، يمكن أن نسمي هذه الحالة “الحنين إلى الابتعاد”. هي حالة إنكار للواقع، ساهمت في تكوينها فئة صغيرة من اللبنانيين ممن “يحتلون” المطاعم والمتاجر، وذلك لتلاؤم انهيار العملة مع رواتبهم، أو من الذين يتلقون تحويلات بالعملة الصعبة.
وتشوب الحالة النفسية هذه، حالة من الترقب والانتظار. تسأل نفسك أو محيطك عن يوم غد، فيكون الجواب: “بكرا منشوف”، ولكن ماذا ننتظر ولماذا ننتظر؟ لا نعلم.
يحنّ سكان هذا البلد الى حالتهم القديمة ويحاولون الابتعاد بأذهانهم عن كل المتغيرات الجديدة.
تقسم الاختصاصية في علم النفس العيادي رانيا البوبو التأقلم إلى نوعين، وترى أن التأقلم الايجابي هو عملية نفسية يقوم بها الفرد بهدف ايجاد شكل من اشكال التوافق بين حاجاته والمحيط الذي يعيش فيه، وينتج عنه تحقيق اهداف الفرد وغاياته وطموحاته بما يتناسب مع قيم المجتمع ومعاييره.
اما التأقلم السلبي فهو ما يعيشه المواطن اللبناني حالياً من عزلة، انطوائية، غضب، تشاؤم وشعور بالانهزامية. يلازمه مع ذلك قلق وجودي، واضطرابات في الاكل والنوم، وكل ذلك مؤشرات الى التأقلم السلبي الذي يعيشه اللبناني نتيجة الأزمات المتلاحقة.
ومن التبعات الخطيرة استمرار الأزمة وتفاقمها، لأن طبع اللبناني البليد يمنعه من عدم سلوك أي شكل من أشكال التغيير.
وبحسب البوبو فإن الانتظار هو من أصعب الحالات النفسية التي يمكن أن يعيشها الفرد، ويمكن أن نطلق عليه تسمية أخرى هي الجمود، وخصوصا أن المواطن والمقيم في لبنان يعيشان في خانة “الآن” فقط، وهما غير قادرين على التخطيط أو النظر الى المستقبل.
إن إدراك حقيقة ما يجري اليوم في لبنان أمر صعب على كل المستويات. كثير من اللبنانيين يعيشون وكأن ما هم فيه فترة موقتة ويعانون من ضبابية في النظر الى يوم غد. ينطوي مفهوم الانتظار على كثير من السلبية كونه مبنيا على واقع وماضٍ سوداوين. نحاول اقناع أنفسنا بأن ما نعيشه هو موقت ولن يستمر الى الغد، وهذا من شأنه نسف الطموح والاهداف والمشاريع لدى الفرد الذي يرفض تقبّل الواقع وينفصل عنه.
ويترافق ذلك مع عدم استيعاب ارتفاع القيمة المادية لحاجاتنا اليومية، وهو أمر ليس بالسهل، خصوصا أن التغيير أتى بشكل مفاجئ ولم يتوقف، وما من حالة مستقرة لمدة زمنية طويلة تسمح للفرد بفهم ما يجري.
آليات كثيرة يلجأ اليها الفرد للتخفيف عن نفسه، فاستخدام عبارة “ورقة” للإشارة إلى ورقة “المئة ألف” على سبيل المثال، يخفي في طياته الكثير من المعاني، كـالاستخفاف والاحساس بانعدام القيمة لهذا الكمّ من المال في وقت كانت قيمة هذا المبلغ أعلى بكثير مما هي عليه اليوم.
قد يكون الحنين لأمر سبق واختبره الانسان وعاش معه هو ممر نجاة للبشر. حنين يحمل في طياته شوقا ولهفة ورغبة في الابتعاد عن الواقع، حيث انه لا يمكن رؤية التفاصيل والتشوهات الصغيرة من بعيد. الموضوع أشبه بلوحة كلما ابتعدنا عنها بدت أجمل.
ولكن في نهاية المطاف سيدرك المواطن اللبناني واقعه الأليم ويكون بين خيارين: إما الاستسلام والانهزامية، وإما خيار الانتفاضة للتغيير، وإذا فشل في ذلك سيقرر ترك المكان والهجرة بعد فقدان الامل من تغيير الواقع، وإن لم يستطع المغادرة فيزيولوجياً سيهاجر نفسياً بغية إرضاء نفسه الانهزامية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى