كتبت بتول رحّال في “الميادين نت”: مع تعمّق الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعيشها القارّة العجوز من جرّاء لحاقها بالركب الأميركي في فرض عقوبات على روسيا عقب الحرب في أوكرانيا، يبدو أنّ أوروبا تعيش لحظة إدراكٍ بأنّ مثل هذا السيناريو سيتكرر، وبأنّ أزماتها ستتفاقم، إن أخفقت في التعامل مع الصين أيضاً، وتصرّفت معها بسياسة بعيدة من البراغماتية.
ولتجنّب مثل هكذا إخفاق، برزت مؤخراً مناقشات بين الأوروبيين بشأن كيفية تموضعهم في مواجهة الصين وتحديد موقع خاص لهم، من دون الانجرار إلى التوتّرات المتزايدة بين واشنطن وبكين.
وضمن هذه الرؤية الأوروبية المستجدّة تجاه الصين، أجرى المستشار الألماني أولاف شولتس زيارةً لبكين، في وقتٍ سابق من الشهر الجاري، حيث ناقش مع الرئيس الصيني شي جي بينغ تعزيز العلاقات المشتركة بين البلدين، فيما سيقوم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل بزيارةٍ للصين أيضاً، مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل، لمناقشة “التحدّيات العالميّة”، وفق قوله.
هذا السعي اللافت لتحسين العلاقات الأوروبية الصينية، يأتي بعد أن شهدت العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي تدهوراً في إثر فرض عقوبات متبادلة بين الجانبين عام 2021 بسبب انتهاكات مفترضة لحقوق الإنسان في منطقة شين جيانغ الصينية، وكذلك جرّاء الموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا، وملفات خلافية أخرى، مثل تايوان.
أوجه العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي
لكن، على الرغم من التدهور في العلاقات، والذي تعمل أوروبا حالياً على كبحه، فإنّ الاتحاد الأوروبي ظلّ يربطه علاقات تجارية وسياسية هامّة مع الصين، وظهرت الحاجة إلى تعزيزها مؤخراً، وسط أزماتٍ يعيشها الاتحاد الأوروبي، متأثراً بالحرب في أوكرانيا، وعقوباته على روسيا.
بحسب صحيفة “بوليتيكو”، فقد كانت الصين في عام 2021 الشريك الرئيسي للاتحاد الأوروبي في تجارة السلع، إذ استحوذت على أكثر من 10% من صادراتها وأكثر من 22% من وارداتها، مشيرةً إلى أنّه “لا توجد دولة في الاتحاد الأوروبي تعتبر التجارة مع الصين فيها غير مهمة”.
وأشارت بيانات المديرية العامة للمفوضية الأوروبية “يوروستات” إلى أنّ واردات الاتحاد الأوروبي من الصين، تركزت على الآلات والمركبات بنسبة 56%، والسلع المصنعة الأخرى بنسبة 35%، والمواد الكيميائية بنسبة 7%.
أمّا الصادرات الأوروبية إلى الصين، فتركزت بشكل أساسي على تجارة الآلات والمركبات، وذلك بنسبة 52%، والسلع المصنعة الأخرى بنسبة 20%، والمواد الكيميائية بنسبة 15%.
وتترجم هذه الأرقام على أرض الواقع الرؤية الاستراتيجية الأوروبية تجاه بكين لعام 2020، والتي أكّدت أنّ الاتحاد الأوروبي والصين مرتبطان بعلاقة دائمة، باعتبار أنّهما اثنان من أكبر 3 اقتصادات في العالم.
وعلى النحو المعبر عنه في جدول الأعمال الإستراتيجي للتعاون بين الاتحاد الأوروبي والصين، اختتم الجانبان في 30 كانون الأول/ديسمبر 2020، من حيث المبدأ، المفاوضات بشأن الاتفاقية الشاملة للاستثمار “CAI”، والتي يُمنح من خلالها، مستثمري الاتحاد الأوروبي مستوى أكبر من الوصول إلى السوق الصينية، لكن لم يتم التصديق عليها حتى الآن، لذلك لم تدخل حيز التنفيذ بعد. غير أنّ التوقعات تشير إلى احتمالية تفعيل هذه الاتفاقية في ظل محاولات التقارب التي تشهده العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين مؤخراً.
وفي الشقّ السياسي، يرى الاتحاد الأوروبي في الصين شريكاً أساسياً لمعالجة قضايا عالمية ذات الاهتمام المشترك، مثل مكافحة تغير المناخ، وضمان حقوق الانسان والسلام والاستقرار والأمن والتمنية، بحسب الرؤية الاستراتيجية الأوروبية تجاه بكين لعام 2020.
كذلك، يعدّ الاتحاد الأوروبي الصين نافذة له نحو ربطه بالدول في آسيا، في مجالات عديدة، مثل النقل والطاقة والاتصال الرقمي وتكافؤ الفرص، إذ تمثل منصة الاتصال بين الاتحاد الأوروبي والصين فرصة أولية لتعزيز وتوسيع ذلك التعاون بطرق متبادلة.
ماذا تريد الصين من أوروبا؟
لا تختلف رؤية القيادة الصينية في التعامل مع أوروبا كثيراً عن الرؤية الأوروبية تجاهها، إذ تسعى الدول للحفاظ على المصالح المشتركة التي تعود بالمنفعة عليها، على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وبحسب مجلة “The Diplomat” الأميركية، فإنّ “السياسة الخارجية الصينية المتعلّقة بأوروبا، تتمثّل في سعي الصين لإشراك الاتحاد الأوروبي في الجوانب التجارية والاقتصادية والمالية”.
وتوسّعت المجلة في تقرير عن الرؤى السياسية الخارجية الشاملة للزعيم الصيني الحالي شي جين بينغ لكيفية التعامل مع الاتحاد الأوروبي، مشيرةً إلى أنّها مكوّنة من ثلاث ركائز أساسية تتلخّص فيما يأتي:
– أولاً، اعتبار الاتحاد الأوروبي “قطباً حيوياً” في نظام الهيمنة متعدد الأقطاب المتصور بعد الولايات المتحدة، والذي يمكن أن يقف بشكل مستقل، إذ تطمح الصين إلى علاقة صينية أوروبية يمكن تجزئتها وجعلها مستقلة عن التوترات المحتملة، أو الاصطفاف بين بروكسل وواشنطن.
– ثانياً، اعتبار الاتحاد الأوروبي شريكاً تجارياً واقتصادياً ومالياً فعالاً ومتعدد الأبعاد للصين، وهو يعمل على استيعاب الجزء الأكبر من الصادرات الصينية، إذ تظل أوروبا شريكاً رئيسياً في توجيه النمو للصين.
– ثالثاً، النظر إلى أعضاء داخل الاتحاد الأوروبي – أي أولئك الذين كانوا تاريخياً أكثر تقبلاً للاتصال التجاري والاقتصادي مع الصين – كقوة موازنة حاسمة ضد الولايات المتحدة، والعمل مع الدول التي تتصرف ببراغماتية نحوها مثل فرنسا وألمانيا على الدفاع عنها ضد الانتقادات الصارمة الموجهة إليها في أوروبا.
هل ستنجح أوروبا في فصل نفسها عن سياسات واشنطن تجاه الصين؟
لكن في مقابل هذه الرؤى الصينية والأوروبية تجاه بعضهما البعض، يبرز أمرٌ أساسي، ألا وهو مدى قدرة نجاح محاولات الاتحاد الأوروبي حالياً في شقّ طريقه الخاص فيه نحو تعزيز علاقاته بالصين، في ظلّ توتر العلاقت الأميركية والصينية، ووسط الضغوط الأميركية الممارسة عليه.
وسائل إعلامٍ غربية، تناولت هذا الأمر بشكل واسع، معتبرةً أنّه يمثّل تصدّعاً في العزم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة العملاق الآسيوي الصاعد.
الولايات المتحدة تريد عزل الصين، وتتوقع أن تنضم أوروبا إليها في العمل على ذلك، لكن تبيّن أنّ سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن في احتواء الصين تتعارض مع مصالح الحلفاء الأوروبيين، الذين قد يواجهون “عواقب مميتة” بسببها، بعد أن دفعت أوروبا الثمن الباهظ لسياسة واشنطن تجاه روسيا.
فالولايات المتحدة الغنية بالطاقة، لا تواجه نقصاً في الغاز أو النفط، على عكس شركائها الأوروبيين الذين يكافحون لتلبية متطلباتهم، ما أدّى إلى استياء الرأي العام الأوروبي، والخروج في مظاهرات ضد السياسات الاقتصاية في عدد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
وفي هذا الخصوص، أشارت صحيفة “بوليتيكو” إلى أنّ الأوروبيين قلقين بشأن سلوك الولايات المتحدة، التي لا تتشاور مع حلفائها فحسب، ولكنها في بعض الأحيان لا تبلغهم بخططها، فجوهر سياسة البيت الأبيض هو “اللامبالاة المهذبة” التي يبقى هدفها الرئيسي معارضة الصين.
وذكرت الصحيفة أنّ “مأساة أوروبا تكمن في أنّ هذا يحدث في وقتٍ من المفترض أن تكون فيه العلاقات عبر الأطلسي في أعلى مستوياتها على الإطلاق، لكن ما يكتشفه الأوروبيون هو أنّ حرب أوكرانيا ليست سوى جانب واحد من المبارزة الاستراتيجية الأكبر بين الولايات المتحدة والصين، والتي ستكون لها الأسبقية دائماً على مصالح الاتحاد الأوروبي”.