أبرزرأي

الصين العملاقة بحاجةٍ لإنجاز متواضع

كتب محمود الريماوي في “العربي الجديد”: لى غير العادة، لم يكن كل شيء هادئا في بكين خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك قبل نجاح انعقاد المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي (الحاكم منذ سبعة عقود) وبعده. وتُنعت المؤتمرات الشيوعية عادةً بالنجاح، وذلك بالمصادقة على تقارير أعلى هيئة في الحزب والتجديد للقيادة، وهو ما جرى في المؤتمر أخيرا.. على أنه قبل انعقاد المؤتمر بثلاثة أيام، نجح محتجّون يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول بتعليق يافطات في منطقة هيديان من العاصمة، وجرى تدوين العبارات التالية على إحدى اللافتتين: “لا لاختبارات كوفيد، نريد أن نأكل. لا للقيود، نريد الحرية. لا للكذب، نريد الكرامة. لا للثورة الثقافية، نريد الإصلاح. لا للقادة، نريد الانتخابات. يمكننا أن نكون مواطنين عبر تجنبنا أن نكون عبيداً”. وقد تناقلت فيديوهات صور اليافطتين قبل أن تعمل السلطات على انتزاعهما.

أما المؤتمر نفسه فقد شهد حادثة غريبة، إخراج الرئيس السابق للبلاد، هو جين تاو، من منصة المؤتمر إلى الخارج، وكأي شخص غير مرغوب بوجوده، وقد نقلت لقطات كيف أن الرئيس السابق استهول هذا الإجراء ضده، وحاول أن يمتنع عن الخروج، قبل أن يقتنع بلا جدوى المقاومة، مع وقوفه هنيهات متحدّثا إلى الرئاسة التي لم تبادله الحديث. وحاولت السلطات تبرير إخراج الرئيس المتقاعد بدواعي الإرهاق الصحي، وهو ما تُنكره محاولته التمنّع عن المغادرة. وقد التقى معلقون من بعد على الاستخلاص بأن الإجراء بحقّ الرجل كان يُقصد به التدليل على أن عهدا جديدا قد حلّ وتكرّس، وأن العهد السابق قد مضى وانقضى، وأنه لا حاجة لوجود رمزي لأبرز الكبار السابقين في المؤتمر. علما أنه كان يمكن بث هذه الرسالة بالامتناع عن دعوة الرئيس السابق للمناسبة، من دون المسّ بمكانته على الملأ وأمام الكاميرات.

وما أن مضت أسابيع على انعقاد المؤتمر حتى وقع حادث مأساوي غريب على خلفية القيود المفرطة لمكافحة “كوفيد 19″، إذ اندلع حريق في بناية سكنية في مدينة أورومتشي، شمال غربي الصين، أدّى الى مقتل عشرة أشخاص، ونشبت إثر ذلك احتجاجاتٌ على بطء عمليات الإنقاذ والإسعاف، وذلك مع وجود حواجز تحدّ من الحركة والتنقل في الشارع الذي تقع فيه البناية المنكوبة. وجرى نصب الحواجز في إطار قيود صارمة لمكافحة الفيروس. ورغم أن السلطات اعتذرت عن الحادث المأساوي، إلا أن الجمهور رأى في القيود الوقائية تشديدا مفرطا، وضرباً من بيرقراطية مستحدثة، علما أن انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي لم يشهد مثل هذه التقييدات، إذ ظهر المؤتمرون بغير كمّامات، ومن دون تباعد بين الحضور الذي ناهزعديدُه ألفي شخص.

أدى نشوب الحريق وسقوط ضحايا كانوا بحكم المحتجزين إلى إطلاق شرارة احتجاجات نادرة في الصين، شملت بكين ومدنا كبيرة، مثل شنغهاي وقوانغتشو (مركز للصناعات) وتشنغتشو (مركز مصنع فوكسكون الضخم الذي يصنّع أجهزة أبل آيفون)، فيما تحدثت مصادر غربية عن مظاهر احتجاج شملت 22 مدينة. وقد أبدت السلطات ردود فعل ساخطة، وقالت اللجنة المركزية للشؤون السياسية والقانونية في الحزب الشيوعي إنه “لن يتم التسامح مع الأعمال غير القانونية والإجرامية التي تخلّ بالنظام الاجتماعي”، بينما ذكرت الهيئة العليا المسؤولة عن وكالات إنفاذ القانون في الحزب “إن الصين ستقمع بحزم عمليات التسلّل والتخريب التي تقوم بها عناصر معادية”.

يستذكر المرء أن السنوات الخمس الأولى من حكم رئيس الصين الحالي، شي جين بينغ، قد عرفت حملة لمكافحة الفساد شملت مسؤولين كبارا في الحزب ووزراء في الحكومة، وقد كان ممكنا إدراج التعامل مع هذه المأساة ضمن إجراءات مكافحة الفساد، بما يشمل الإهمال الوظيفي والتعسّف في ممارسة الصلاحيات، والتسبب بوفاة أشخاص أبرياء، ثم محاسبة المسؤولين عما جرى، ومراجعة سياسة “صفر كوفيد” التي أدّت، بين ما أدّت إليه، إلى تكميم الأفواه، وليس مجرّد وضع كمّامات واقية على الوجه.

من دواعي الغرابة حقا تسييس مسألة كوفيد 19 منذ البداية وحتى أيام الناس هذه، مع ما لذلك من تداعيات سلبية، ففي بداية ظهور الوباء في الصين جرى إنكار ظهور الوباء في مدينة ووهان، وجرى الضغط على الطبيب الصيني الشاب لي ويلنغ يانغ الذي حذّر مشفوعا بالحرص على سلامة شعبه ومناعة بلده من الاستخفاف ببدء انتشار الوباء، وقد تم إسكات الرجل وإرغامه على توقيع شهادة تفيد بخطأ ملاحظاته واستنتاجاته، ولم تمض سوى أيام حتى كان الطبيب الشاب نفسه من ضحايا “كوفيد 19” مع عدد آخر (ليس كبيرا) من الضحايا لم يجر الإعلان عنه في حينه. وكان رائد السلطات في ذلك أن الصين المتقدّمة ليست ولن تكون موطناً لأي وباء، وأن أي حديث في اتجاه آخر حتى من أطباء ذوي اختصاص يسيء لسمعة البلاد.

وها إن الأمر يتكرّر بعد مضي نحو ثلاث سنوات على بدء ظهور الوباء، فبينما ابتعد شبح الوباء عن أغلب الدول، بما فيها الفقيرة، ما زال الوباء ساريا في الصين (وفي الولايات المتحدة أيضاً التي يسقط فيها يوميا بين 300 و400 ضحية). وقد حزمت بكين أمرها مجدّداً لتحقيق هدف صفر إصابات وضحايا، وذلك باتباع إجراءات الإغلاق الشامل للمناطق أو الأحياء، والمراقبة اليومية للمصابين، مع أنه يفترض أن الجميع قد تلقوا التطعيم خلال هذه الفترة الطويلة، وبخاصة أن الصين كانت من أبرز الدول المنتجة للقاحات، إلا أن السلطات رأت في استمرار الوباء والتقارير بشأنه ما يسيء لصورتها بعد نجاح غالبية الدول في التحرّر منه، وهو ما جعل هذه السلطات بالغة الحساسية تجاه أي نقد أو ملاحظة تتعلق بسياستها الصحية، واعتبرت الأمر أقرب إلى مسألة أمن وطني، غير أن الإغلاقات وما نجم عنها من الإخفاق في محاصرة حريق المبنى السكني في مهده، قد فاقمت من مشاعر الضيق لدى ملايين الصينيين، وأخرجتهم للاحتجاج في الشارع، وذلك مع تعطّل قنوات الاتصال المباشر بين الجمهور والسلطات، وغياب المنابر المستقلة للتعبير، ولأن السلطات تُنزّه “نفسها” عن ارتكاب أي خطأ جسيم، ولأن اهتمامات هيئة إنفاذ القانون لم تشمل محاسبة قانونية عادلة للمسؤولين عن المأساة، وعن وضع الحواجز المانعة لحركة مركبات الإطفاء والإسعاف، فقد حدث ما حدث. وأمام اندفاع السلطات إلى تسييس التعامل مع “كوفيد 19” منذ البدء، فإنه بدا متوقعاً أن ينحو المحتجون بدورهم، وعلى طريقتهم منحى تسييس مظاهر غضبهم، إذ أخذوا يهتفون بالحرية للصين، وبعبارات أخرى مماثلة في مضمونها.

لقد حقّقت الصين خلال العقود الثلاثة الماضية إنجازات عملاقة يشهد لها العالم بأسره، وكان للحزب الشيوعي، وهو الحزب الوحيد في البلاد، دورٌ في هذه النهضة المشهودة التي وضعت الصين في مصاف الدول الأكثر تقدّماً في عالمنا، وقد آن الأوان لإحراز إنجازات متواضعة، مثل المصالحة مع الجمهور العريض، ومنحه الحق الطبيعي في التعبير والتمثيل بغير وصاية فوقية، إذ يتعذّر الجمع على سبيل المثال بين التقدّم التكنولوجي الباهر، بما يشمل وسائط التواصل البشري الحديثة، وسياسة فرض الصمت العام.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى