أبرزرأي

السياسة الخارجية الروسية: إلى الشرق در!

كتب ميخائيل مارغيلوف في موقع “المجلس الروسي للشؤون الدولية”: يجري حالياً توضيح الجدل الذي نشأ في روسيا حول النظام العالمي الجديد، والانفصال عن الغرب والتحول إلى الشرق، الناجم عن ظروف معروفة، ويتخذ أشكالاً أكثر واقعية. من الواضح أن تغيير النظام العالمي لم يحدث بعد. لم تجر أحداث في العالم حتى الآن تمكّن الأطراف من تجاوز جميع المبادئ التي تشكل النظام الدولي الحالي وفقها، وبالتالي ترسي “قواعد دولية” شاملة جديدة.

هناك تحول معقد في ميزان القوى بين “مراكز صنع القرار” الرئيسة في العالم الحديث. هي عملية طويلة ومستمرة أيضاً، وقد استغرقت عدة عقود. هل سيظهر نظام عالمي جديد نوعياً نتيجة لذلك؟ وكيف سيكون؟ وكيف ستتطور المنافسة الحتمية بين “مراكز القوى” العالمية؟ هذه الأسئلة التي يعالجها عضو المجلس السياسي ونائب رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية ميخائيل مارغيلوف في محاولة التنبؤ “بواقع العصر الحديث”.

لم تتلاءم روسيا (ولا يوجد شيء مسيء للبلاد هنا) مع النظام العالمي، فمهندسه الرئيس هو “مركز القوة” الغربي الجماعي الخاضع للولايات المتحدة الأميركية. والسبب في ذلك واضح وهو الوضع في أوكرانيا. كيف يمكن للمرء ألا يتذكر هنا نبوءة معلم جميع القادة الأميركيين في العقود الأخيرة، زبيغنيو بريجنسكي: روسيا مع أوكرانيا، كما يقولون، إمبراطورية، وبدون أوكرانيا لم تعد إمبراطورية. أزمة العلاقات مع الغرب لا تعني “شطب” أو إقفال الغرب الباب أمام السياسة الخارجية الروسية كشريك محتمل، إن لم يكن للتعاون، فمن أجل الحوار. لا ينبغي أن يُنظر إلى تحول روسيا نحو “غير الغرب” على أنه رفض كامل لـ “الغرب الجماعي” (في البداية، نظر إلى المسألة بهذه الطريقة العديد من المحللين الذين لم يشاركوا بشكل مباشر في السياسة الخارجية الروسية). 

في مكان ما، لا يزال تعاطي الغرب مع روسيا يذكرنا في بعض النواحي بالوضع خلال الحرب الباردة. المسألة الرئيسة هنا تتمثل في أن روسيا والولايات المتحدة تحافظان على التكافؤ العالمي في المجال العسكري الاستراتيجي، وقبل كل شيء، في مجال الصواريخ النووية. من غير المحتمل أن يتمكن أي طرف من الوصول إلى مرتبة هذا “الثنائي” في المستقبل المنظور كشريك على قدم المساواة معهما، وأن يتحول “الثنائي” إلى “ثلاثي” أو “رباعي”. 

يستمر “الثنائي” الحالي في الحفاظ على الاستقرار العالمي. تبين أنّ لعب دور “الزر” النووي الاستراتيجي هذا لم يُنس من قبل موسكو وواشنطن معاً، ما أظهر بصيصاً من الواقعية ضد الخلفية الكئيبة والفوضوية العامة للعلاقات الروسية الأميركية. لا عجب أن الأمر يجعل أوروبا تشعر بالقلق مرة أخرى، وتشك دائماً في الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة بشأن الملف النووي. 

لقد انهار بين عشية وضحاها جدول أعمال العلاقات الروسية مع “الغرب الجماعي” بشكل تام، إذا لم نأخذ في الحسبان العنصر العسكري الاستراتيجي المذكور. لقد تلاشى المفهوم السابق للعلاقات بين روسيا والنظام العالمي، الذي بُني على مدى عقود باعتباره الخط المهيمن في سياستنا الخارجية. لم تقدم منصة الأمم المتحدة نفسها كأساس للعمل على إنشاء نظام أمني أوروبي، ومساحة إنسانية وقانونية مشتركة لأوروبا الكبرى. لقد استغرقت الجهود في هذه المجالات الكثير من الجهد والوقت، ويمكن استخدامها، على سبيل المثال، لتعزيز النظام الواسع للأمن العالمي على أساس الأمم المتحدة نفسه. 

لم تصبح روسيا جزءاً من عالم الاقتصاد والتجارة والتمويل المتمحور حول الغرب. كما أن الجذور والقيم التاريخية المشتركة التي أعلنت ذات يوم، والتي تكمن وراء العلاقة بين “الغرب الجماعي” وروسيا أصبحت الآن ملعونة ومنسية. أدلت وزارة الخارجية الروسية مؤخراً بتصريحات قوية وصريحة للغاية حول تصورها للأمن الأوروبي. يتلخص فحواها في أن أساسها لم يعد مناسباً لروسيا، ويتخطى ذلك المبادئ إلى الهياكل ومشاركتنا فيها. بدا الأمر وكأنه نوع من التخلص من رداء قديم. 

ومع ذلك، شكلت التصريحات خطوة إلى الأمام في النقاش حول نظام الأمن الأوروبي المتهاوي. في السابق، كانت روسيا تأمل في أن يعود “الغرب الجماعي”، وخاصة “المكون الأوروبي” فيه، إلى رشده قريباً، ويفهم الضرر الذي سببه لقضية الاستقرار الأوروبي، وأن يكون مستعداً مرة أخرى لاستئناف الحوار على المبادئ نفسها: “الوطن الأوروبي المشترك” ومعظم العلاقات مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومجلس أوروبا وحلف شمال الأطلسي. لكن الآمال لم تتحقق. 

اليوم، لم تُصغ أجندة جديدة للسياسة الخارجية الروسية في الغرب. ويبدو أن مشاعرنا تحركنا ونلتف حول أنقاض منظومة بدا في السابق أنها لا تتزعزع، متضمنة مفاهيم ومبادئ التعايش مع الغرب “من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال”.

أمامنا الآن “منعطف نحو الشرق”. المزاج العام في دوائرنا السياسية والخبراء متفائلون إلى حد ما. لقد أنتجت أيادي علماء السياسة الروس الخفية مصطلح “غير الغربي” وتم تلقفه مقترناً بمصطلح “الغالبية العالمية”، التي يُعتقد أنّ لروسيا مكانة كبيرة فيها، إن لم تكن على رأسها. يُقال أيضاً إنّ “الغالبية العالمية” نابعة منا ومن أفكارنا حول إعادة تنظيم العالم وفي مشاريع تجارية محددة. حتى الآن، تشكل هذه الفكرة أملاً عاماً. إذ لا توجد “خارطة طريق” لتحركنا نحو الشرق، وحتى الخطوط العريضة لم يتم تحديدها. وهذا على الرغم من كل تنوع علاقاتنا الثنائية مع الدول الشرقية. 

في بلدنا، باستثناء دول ما بعد الاتحاد السوفياتي المنضوية في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لا توجد أشكال للعلاقات الاستراتيجية العسكرية مع الحلفاء تؤسس لمنظومة “الغالبية العالمية” التي من شأنها أن تسمح لنا بتشكيل أنظمة أمنية وعسكرية. لا توجد أنظمة علاقات اقتصادية، ولا توجد سلاسل تجارية راسخة تسمح بالحصول على التقنيات المتقدمة، وإنشاء أنظمة مشتركة للعملة والدفع، وتعظيم استخدام إمكاناتنا الاقتصادية واستثمارها (المواد الخام في المقام الأول). 

كل هذا يجب أن يتم إنشاؤه من الصفر تقريباً. منذ ما يقرب من 20 عاماً، أتيحت لمؤلف هذه السطور بالفعل الفرصة للفت الانتباه إلى هذا الظرف والدعوة إلى تطوير “سياسة شرقية جديدة” لروسيا، ما يعني إنشاء نظام متكامل حول الأهداف والطرق. لتحقيقها في أوراسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لكنه كان “صوتاً يصرخ في البرية”. كان الجميع حريصاً جداً على عملية بناء تحالفات استراتيجية مع “الغرب الجماعي” بشكل عام، والاتحاد الأوروبي بشكل خاص. 

اليوم، كما كانت الحال آنذاك، نحتاج إلى “سياسة شرقية جديدة”. إنها ضرورية، أولاً وقبل كل شيء، لأننا لا نستطيع الانتقال إلى الشرق فقط بإعلانات عامة حول مصطلح “غير الغربي” لإنشاء نظام عالمي أكثر عدلاً ومساواة؛ بغض النظر عن مدى أهمية الإعلانات، التي يتوقع المزيد منها في روسيا. لا تشكل المشاريع التجارية والاقتصادية المنفصلة، وإن كانت كبيرة جداً في بعض الأحيان، صورة شاملة للسياسة الروسية في الاتجاه نحو الشرق. تماماً مثل المشروع الصيني الضخم “حزام واحد، طريق واحد”، الذي لا يخلق صورة كاملة لسياسة الصين تجاه الدول المشاركة فيه. 

يتوقع “غير الغربي” من روسيا مفهوماً سياسياً حقيقياً ذا مغزى للعلاقات، خاصة إذا ادعينا إنشاء نظام عالمي جديد، بديل للنظام القائم. من المهم بالنسبة إلينا أن نقدم للشركاء المحتملين آفاقاً واضحة لتطورنا المشترك، والتوجيهات الرئيسة لقوتنا وقدراتنا. يريد الشرق أن يفهم ما الذي تعنيه إعلاناتنا الموجهة إليه عملياً. وهنا من الضروري الحصول على إجابة على سؤال: ما الذي نريده نحن أنفسنا في الواقع؟ تحالف عسكري جديد؟ نظام نقدي بديل وتكامل اقتصادي؟ تشكيل “مركز قوة عظمى” جديد يكون قادراً على ضمان التقدم العالمي، ومعيار جديد للنظام العالمي والعلاقات الدولية؟ 

من خلال الحصول على إجابات واضحة على كل هذه الأسئلة، يمكننا الاعتماد على أن تحولنا إلى الشرق سيكون فعالاً. وطالما أنه لا يوجد مثل هذا البرنامج السياسي الواضح، فلا يستحق الأمر الإسراع بتوقعات متفائلة بشأن تحركنا المرئي إلى الأمام. في عجلة من أمرنا، قد لا تؤتي الموارد التي يتم طرحها في هذا الاتجاه ثمارها بالطريقة عينها التي حدثت سابقاً “الاتجاه نحو الغرب”. فأي بناء مهتز، منسوج من الآمال المشتركة، سيعرضنا لخطر الانهيار.لا تستهينوا بالصعوبات في طريق “إلى الشرق در”.

إن مزاج “الغالبية العالمية” تجاه روسيا ليس دائماً ثابتاً بأي حال من الأحوال. إن التصويت الأخير على مواضيع حساسة بالنسبة إلى روسيا في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة دليل واضح على ذلك. بالإضافة إلى أن نتائج مجموعة العشرين الأخيرة، التي أننا نعتبرها مقيدة سياسياً، لا تزيل المخاوف بشأن الموقف الغامض من روسيا. يعيش الشركاء المحتملون من “الغالبية العالمية” وفقاً لمصالحهم الخاصة، والتي لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الروسية، بغض النظر عمّا يحلم به بعض الخبراء المحليين.

العالم “غير الغربي” هو بناء أكثر تعقيداً من الغربي الأحادي المركز. فهناك أمور كثيرة محدد سلفاً على مستوى العالم من خلال الدور المهيمن للولايات المتحدة مع ملاحظة بعض الفروق الأوروبية المعروفة. الشرق، كما نعلم، هو “مسألة حساسة”، لأنه في حد ذاته متعدد الأقطاب داخلياً وغير متجانس ومجزأ. ويتطلب ذلك منا اهتماماً وثيقاً بمراعاة صحيحة للمصالح المتنوعة لمختلف المناطق والبلدان و”مراكز القوة” المحلية، التي قد تدعي في المستقبل أنها ستصبح عالمية. وينبغي ألا ننسى أن الغرب يتربص بنا خلف المنعطف نحو الشرق. فالمنافسة الدولية الشديدة على مشروع نظام عالمي جديد جذاب “للغالبية العالمية” لم تأت بعد، ويجب أن نكون مستعدين لها.

في التوجه نحو الشرق، تتمتع روسيا بميزة تنافسية لا جدال فيها. نحن نتحدث عن تجربة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية القائمة على النضال ضد التبعية الاستعمارية الغربية. كانت “السياسة الشرقية” السوفياتية، القائمة على فكرة التخلص من الاستعمار والتغلب على إرثه، أيديولوجية بقوة، مبنية على أساس الأممية الشيوعية ومعاداة الإمبريالية. ومع ذلك، ساهمت هذه السياسة في تعزيز مواقف الاتحاد السوفياتي في العديد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث لا يزال الكثير من الناس يتذكرون بامتنان أيام تنفيذ المشاريع السوفياتية. لكن العقود مرت منذ ذلك الحين. 

في هذه البلدان، تشكلت حقائق اجتماعية واقتصادية جديدة، وتغيرت الأجيال النشطة سياسياً واقتصادياً، وزاد الترابط الدولي، وتغير الوصول إلى المعلومات بشكل أساسي في جميع المجالات. ما ينتج عن هذا الواقع الجديد والأجيال الجديدة، يمكننا من الإجابة على سؤال عما إذا كانت فكرة محاربة الاستعمار الجديد مقبولة كفكرة راسخة للسياسة الخارجية الروسية. إن التحول نحو الشرق، كما كانت الحال قبل عشرين عاماً، يتطلب استراتيجية واضحة وتكتيكات مدروسة جيداً. هناك حاجة ماسة إلى “السياسة الشرقية الجديدة” لدى روسيا. خلاف ذلك، فإن مخاطر التحديد غير الصحيح للأهداف أو عدم وجودها، يضعنا أمام احتمال حدوث انزلاق مع خسارة أخرى للوقت والمال.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى