الراعي: لم تكن التعددية عائقًا أمام وحدة المجتمع اللبناني لأنّها كانت لبنانيّة الهويّة

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد على مذبح كنيسة الباحة الخارجية للصرح “كابيلا القيامة ” عاونه فيه المطرانان حنا علوان وانطوان عوكر، ومشاركة عدد من المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والراهبات، في حضور النائبين ملحم خلف وطوني فرنجية،ممثل قائد الجيش العميد سمعان طراد، رئيس فرع مخابرات جبل لبنان العميد طوني معوض،شبيبة مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان “APECL”،مؤسسة “سعادة السماء” برئاسة الأب مجدي علاوي، وفد من كشافة لبنان، وحشد من الفاعليات والمؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة بعنوان:”كنت جائعا فأطعمتموني” قال فيها: “تذكر الكنيسة، في هذا الأحد وطيلة الأسبوع، الأبرار والصدّيقين الذين يشكّلون كنيسة السماء الممجّدة. تستشفعهم من أجل أبنائها وبناتها الذين يشكّلون كنيسة الأرض المجاهدة في بناء ملكوت الله، ملكوت الحقيقة والمحبّة والعدالة والسلام، ونقتفي آثارهم، ونستشفعونهم من أجل راحة نفوس موتانا في كنيسة المطهر. هؤلاء الأبرار والصدّيقون خدموا المسيح بخدمة الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسجين، الذين تماهى معهم المسيح الربّ، قائلًا: “كنت جائعًا فأطعمتموني” (متى 25: 35)، وسمّاهم “إخوته الصغار” (متى 25: 40). فليعضدنا المسيح الإله في محبّته من خلال محبّتهم”.
وتابع: “يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا للإحتفال بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وأوجّه تحيّة خاصّة إلى شبيبة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان المعروفة “بشبيبة APECL”. في إطار عيش يوبيل الشبيبة 2025، دعَت اللجنة الوطنية للشبيبة APECL Jeune، بشخص المرشد الوطني الخوري شربل دكاش والمنسّق العام الأستاذ روي جريش، للسير في مسيرة “حجّاج الرجاء”، مع كلّ قادة ومسؤولي الشبيبة من مختلف الكنائس الكاثوليكية في لبنان، بهدف إعادة اكتشاف هويّة الكنائس الشرقية في لبنان، وقراءة علامات من تاريخها، وتراثها، وليتورجيّتها، إضافةً إلى تفعيل التواصل بين مختلف مرشدي ومسؤولي لجان الشبيبة والحركات الرسولية والكشفية في الكنائس الكاثوليكية في لبنان. قام مكتب راعوية الشبيبة في دائرتنا البطريركية BKERKE Jeune، بإشراف المرشد الخوري جورج يرق والأمين العام الياس القصّيفي، بتنظيم هذا اللقاء الثالث من هذه المسيرة، لكي يتعرَّف شبيبة الكنائس الكاثوليكية الشقيقة على كنيستنا المارونيّة، فيتشاركون، مع شبيبتنا المارونيّة، الاحتفال بالإفخارستيا، والمشاغل حول تراث وتاريخ وتقاليد وليتورجية كنيستنا، ويتعرّفون على صرحنا البطريركيّ في بكركي. إننا لسعداء باستضافتكم أيها الشباب الاحباء، فأنتم لستم مستقبل الكنيسة وحسب، بل أنتم حاضرُها المــُزهر دوماً والذي عليه نتّكل. وأوجّه أيضًا تحيّة خاصّة لمؤسّسة “سعادة السماء” ولمؤسّسها الأب مجدي علّاوي التي تحتفل بالعيد الثامن عشر على تأسيسها، متمنّين لها دوام النجاح والنموّ. فيما تصبو اليه من خدمة لأشخاص مهمشين في المجتمع، مشرّدين ومدمنين. نشكر المؤسسة والأب مجدي على لاحتضانهم لهؤلاء الأشخاص للتخفيف من معاناتهم”.
وقال: ” إنجيل اليوم هو إنجيل الدينونة الخاصّة والعامّة: الخاصّة في نهاية حياة كلّ إنسان، إذ عند وفاته يحضر أمام عرش الله ليؤدّي حساب حياته، ولاسيما حول عيشه وصيّة المحبّة. والدينونة العامّة في نهاية الأزمنة، كما نعلن في قانون الإيمان: “وأيضًا يأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات”. يفصّل الربّ يسوع حاجات الإنسان بستّةٍ ماديّة ومعنويّة وروحيّة. وهي الجوع والعطش والغربة والعري والمرض والسجن. فإطعام الجائع إلى الخبز الماديّ، وأيضًا إلى الخبز الروحيّ، خبز كلمة الله وجسد الربّ ودمه، وإلى خبز العلم والتربية؛ وسقي العطشان إلى الماء وأيضًا إلى العاطفة والرحمة والعدالة؛ وإيواء الغريب عن وطنه وأرضه ومحيطه، سواء بداعي الهجرة أو التهجير أو العمل، أيضًا الذي لا يتفهّمه أهل بيته أو محيطه ويشعر كأنّه في غربة عنهم؛ وكسوة العريان الذي يحتاج لباسًا لجسده وأثاثًا لسكناه ولبيته، وأيضًا الذي يحتاج إلى صون كرامته وصيته؛ وزيارة المريض والحزين والمتروك والوحيد والمعوّق، وزيارته تعني الاعتناء به ومساعدته وتشجيعه والتخفيف من وجعه؛ وتفقّد السجين أكان وراء قضبان الحديد في السجن، أم وراء جدران الظلم والاستبداد، أم من هو سجين عاداته السيّئة وانحرافاته وميوله وإدمانه، ومساعدته على تحرير ذاته. ويحدّثنا انجيل اليوم أيضًا عن نتيجة الدينونة التي نخضع لها جميعًا: الخلاص والهلاك الأبديّين. إنّ الذين يمارسون المحبّة بكلّ أشكالها الموصوفة في الإنجيل يبلغون إلى سعادة الخلاص الأبديّ: “هلمّوا يا مباركي أبي، رثوا الـمُلك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم” (متى 25: 34). أمّا الذين لا يمارسون هذه المحبّة، بل ينكمشون على أنانيّتهم، فمصيرهم شقاء الهلاك الأبديّ: “ابعدوا عنّي، يا ملاعين، إلى النار المعدّة لإبليس وجنوده” (متى 25: 41)”.
واضاف: “المسيحيّة هي حضارة المحبّة الحقيقيّة” في الشؤون الزمنيّة: الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، كما في الحياة الزوجيّة والعائليّة. إنّها إعلان حقيقة حبّ المسيح في المجتمع. نحن بحاجة إلى نشر هذه الحضارة، وتجسيدها في الأفعال والمواقف والمبادرات. يعلّم المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثانيّ أنّ “من يتّبع المسيح، الإنسان الكامل في المحبّة والحقيقة، يصبح هو نفسه أكثر إنسانًا” (الكنيسة في عالم اليوم، 41). هذه الحضارة لا تمتلكها الدولة، بل المجتمع الذي وُجد قبل الدولة. فلبنان قبل أن يكون دولة وكيانًا سنة 1920، كان مجتمعًا؛ وهذا ما ساعد آباءنا وأجدادنا على الصمود قبل نشوء دولة لبنان الكبير وبعد نشوئها. هو المجتمع، لا الدولة، أتاح للبنانيي الجبل مواجهة الاحتلالين المملوكي والعثماني. وهو المجتمع، لا الدولة، ما مكّن لبنانيي السيادة والاستقلال والتحرير من مواجهة الاحتلالين السوري والإسرائيلي. وهو المجتمع، لا الدولة، الذي حافظ سنة 1975، وما بعدها، على لبنان رغم انقسام مؤسّسات الدولة الدستوريّة والأمنيّة والعسكريّة. وكان مجتمعنا الوطني يملك قضية مثلثة: الأمن، والحرية والحضارة. قال لنا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني في ختام أعمال السينودس من أجل لبنان سنة 1995: “ما خلّص لبنان ونجّاه من الدمار هو مجتمعه المميّز بالعيش المشترك المسيحي-الإسلاميّ. سنة 1975، سقطت الدولة وبقي المجتمع، فصمدنا وانتصرنا معًا وأعدنا بناء الدولة. ما يميز لبنان عن دول محيطه أنّه دولةٌ تدور حول المجتمع، بينما في المحيط دول تدور حول أنظمتها. لم تكن التعددية يومًا عائقًا أمام وحدة المجتمع اللبناني، لأنّها كانت تعدّدية لبنانيّة الهويّة”.
وختم الراعي: “فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل المسؤولين في بلادنا، لكي يجعلوا من الدولة مجتمعًا شبيهًا بالمجتمع اللبنانيّ، مع تنقيته من شوائبه فيكون مجتمع حضارة المحبّة والحقيقة. ونرفع نشيد المجد والشكر للثالوث القدّوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.
بعد القداس، استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.