التفكير النقدي أمام الإعلام الموجه
كتب أحمد محمد الشحي في صحيفة البيان.
يواجه الفرد اليوم وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي أنواعاً شتى من المحتويات، بما في ذلك المحتويات الموجهة التي تستهدف غرس قناعات معينة في عقلية المتلقي تجاه قضية أو أمر ما، والتي يلجأ أصحابها إلى مختلف الوسائل الإقناعية، بما في ذلك التزييف وتلفيق المعلومات وخلط ما هو صحيح بما هو مضلل وإظهار الآراء على أنها حقائق لا تقبل الجدل.
إن هذا الإعلام الموجه بجانب توظيفه من قبل جهات وتيارات وتنظيمات للتأثير على آراء الجمهور فقد تنامى دوره كأداة شعبية مشاعة يستخدمها مختلف الأفراد لنشر قناعاتهم وآرائهم وتجاربهم ومواقفهم الشخصية في جميع مناحي الحياة ومن مختلف الخلفيات التعليمية، وبمقدار ما أسهم ذلك في مشاركة المعرفة وتبادل التجارب والخبرات، فإنه كذلك أدى إلى فوضى معلوماتية كبيرة، وبالأخص مع تحول هذه المنصات إلى أسواق استهلاكية عريضة يبحث فيها الكثيرون عن التربح، مع عدم وجود سياسات تطالب المستخدمين بأن تكون المعلومات التي ينشرونها صحيحة وموثوقة، وبدلاً من ذلك نجد في سياسات هذه الشركات التقنية كلمات من قبيل المحتوى الجذاب والتفاعل والإعجاب ونحو ذلك، والتي وإن كانت عناصر مهمة للنشر والتأثير فهي فروع لشجرة الحقيقة، ذلك الذي لا نجده ماثلاً في تلك السياسات الموجهة للمستخدمين، وإذا كان بعض الكُتاب والمفكرين قد استخدموا في العقود الأخيرة مصطلح «ما بعد الحقيقة» للتعبير عن سيادة التأثير العاطفي على حساب نشر الحقائق الموضوعية فإن الأمر أخذ منحى أوسع مع اتساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي وسياساتها الربحية والتنافسية في السنين الأخيرة.
إن هذا الواقع المعاصر يحتم على كل فرد أن يتحلى بالتفكير النقدي، الذي يرفع شأن الحقيقة والموضوعية في التعامل مع المحتويات، ويعلي من دور العقل والمنطق، ويحفز الإنسان على الجد والاجتهاد في التأكد مما يقرأ ويسمع، والفحص الجيد للمعلومات والأخبار التي تأتيه، فلا ينخدع بالمعلومات المضللة ولا الأخبار الزائفة ولا الإشاعات المغرضة، مهما كانت جذابة في عرضها، مثيرة في شكلها، ومن دون الانجرار لتصديقها بمقدار ما نالت من تفاعل وإعجاب، فإن التعامل مع هذه المعلومات والأخبار ليست كالتعامل مع السلع والمنتجات والخدمات التي يقيس الإنسان جودتها بمستوى رضا المتعاملين.
ومن أهم مظاهر التفكير النقدي في هذه الحالات هو القدرة على التمييز بين الحقائق والآراء، وبين الوقائع والتحليل، فعلى فرض ثبوت الحقائق والوقائع فإن تفسيرها وتحليلها شيء آخر، فهذه التفسيرات والتحليلات هي وجهات نظر تخضع لرأي صاحبها وخلفيته الفكرية وثقافته وطبيعة تفكيره ونفسيته وأخلاقه، وهي تخضع لمبدأ الصواب والخطأ، فلا يليق بالمتلقي أن يأخذها على عواهنها من دون نظر وتمحيص، وبالأخص إذا كان المحتوى يتضمن ثقافة سلبية أو أمراً مشبوهاً، مهما زُخرفت هذه التحليلات بأشباه الأدلة وأنصاف الحجج، وكم في مواقع التواصل الاجتماعي من آراء غريبة وأفكار مريبة نجد أصحابها يحشدون لها جيوشاً من الأدلة المغلوطة، حتى رأينا من يغلو في نظريات المؤامرة ويزرع الشكوك المرضية في المجتمعات، ويظن ذلك حقاً فاصلاً مدعوماً باستدلالات ساطعة! فعلماء الشرع عنده متآمرون على الدين، وعلماء الطب محتالون، وعلماء الفضاء ممثلون كاذبون، والناس مساقون مخدوعون!! وينافح عن ذلك كله بأدلة يظنها كذلك وهي أوهى من بيت العنكبوت، وقد يسوق آية قرآنية وتفسيره الخاص، فالآية حقيقة وتفسيره مجرد رأي محض زائف، كما هو أيضاً حال من يتصدون للتحليلات السياسية وهم ليسوا بأهلها، فيأتون بخبر قد يكون صحيحاً ويتبعونه بتحليل طويل من عندياتهم، يطعنون به في الدول والأوطان، فضلاً عمن يأتون بالأحاديث الموضوعة من الأساس ويبنون عليها قصوراً من رمال، أو ينشرون أخباراً زائفة ويبنون عليها التحليلات العظام، وقد قيل لأمثال هؤلاء: أثبت العرش ثم انقش!
ومن مظاهر التفكير النقدي الاستفسار عن مصادر المعلومات والأخبار قبل قبولها، والتأكد من موثوقية مصدرها، ومن واجب الآباء أن يفتحوا قلوبهم وصدورهم لأبنائهم، وأن يعودوهم على الجلوس معهم، والاستماع لتساؤلاتهم واستفساراتهم، ومناقشتها معهم بالحجة والإقناع، ويربوهم على التفكير النقدي، الذي يقوي شخصيتهم، ويجعلهم بمنأى عن الانقياد والتأثر بأي استقطاب موجه، يستهدفهم في دينهم أو مجتمعهم أو وطنهم.