رأي

التطبيع والمقاومة بالصمت.

كتب كمال عبد اللطيف في العربي الجديد.

لا يجب أن نُغمض أعيننا ونغلق آذاننا ونحن نسمع ونُعاين في السنوات الأخيرة تصاعد عمليات التطبيع مع إسرائيل في بلدان عربية عديدة. وإذا كان من المؤكد أن عمليات التطبيع أقدم من المعاهدات التي حصلت، إلا أن مستويات التفعيل المرتبطة بالظاهرة أخيرا، ومستويات حضورها الإعلامي والسياسي، تفوق أشكال التطبيع السرّية والمقنّعة، التي كانت سارية منذ منتصف القرن الماضي، وقبل حصول معاهدتي التطبيع المصري والأردني.

صحيح أن التطبيع ما زال يحمل علامة تطبيع الأنظمة السياسية العربية وحدها مع دولة الاحتلال، وصحيحٌ أيضاً أن تعبيرات سياسية عديدة، وأخرى تمثل بعض مؤسّسات المجتمع المدني العربي، تواصل رفضها العلني التطبيع، مُبرزة الآثار السياسية المترتبة عنه، في موضوع مشروع التحرير الوطني الفلسطيني، إلا أن هذا كله لم يُولِّد في المشهد السياسي العربي ما يمكن أن يساهم في وقف آلية التطبيع المتصاعد بصور مخيفة… وذلك من دون أن ننفي الآثار التي ترتبت عن مواقف رفضه المُعلن، في مسألة تعطيل مبدأ الإسراع بتفعيل المبادئ التي تضمنتها معاهداته.

دعنا من مبرّرات البلدان المطبّعة أخيراً، الإمارات والبحرين والمغرب، فهي غير مُقنعة، إضافة إلى أن آثار التطبيع، الفعلية والمباشرة، تنعكس سلباً على تطلّعات الشعب العربي الفلسطيني، وتمنح الغزاة والمستوطنين في دولة الاحتلال ما يسمح لهم بمزيدٍ من التمدّد والضَّم والتوسّع، وإنعاش أحلام الاستيطان الأكبر بمزيد من اختراق المجتمعات والأنظمة السياسية العربية، الأمر الذي يجعل القضية الفلسطينية تواجه كياناً استعمارياً يواصل مَدَّ أذرعه في مختلف أبعاد الجغرافية العربية، مُعلناً أنه وحده القادر على مساعدة الجميع وحمايتهم من القوى الإقليمية والدولية. وهو لا يتردّد اليوم في مواصلة اعتدائه على الفلسطينيين في المخيّمات وفي القرى والمدن الفلسطينية، فكيف يواجه الفلسطينيون اليوم الغطرسة الإسرائيلية؟ كيف يواجهون مواثيق التطبيع الجديدة، والمتناقضة مع بيانات القمم العربية التي تتواصل من دون حرج، إعلان أن القضية الفلسطينية تُعَدّ قضية العرب الأولى؟

بعد العدوان الإسرائيلي على جنين، امتلأ الإعلام العربي بالحديث عن تطوُّر العلاقات العربية الإسرائيلية، في السياحة وفي تجارة الأسلحة، وكذا في مجال التعاون العلمي الدبلوماسي والأمني، وسط قاذفات السلاح الإسرائيلي على أهل مدينة جنين. ألم يكن الأحرى بالمطبّعين، الموقّعين، في الوقت نفسه، على بيانات مؤتمرات القمّة العربية، التنديد بالاعتداءات والدعوة العاجلة إلى وقفها؟ ألم يكن بإمكانهم المطالبة بوقف إقامة المستوطنات، ووقف مزيد من ضمّ الأرض ومحاصرة الفلسطينيين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة؟

امتلأ الإعلام العربي بالحديث عن تطوُّر العلاقات العربية الإسرائيلية، في السياحة وفي تجارة الأسلحة…

لم يعد المشهد السياسي العربي الفلسطيني واضحاً، تراكمت المآزق، اتّسع الانقسام الفلسطيني، تناسلت الجماعات واختلطت الشعارات والأهداف، خَيَّم الغموض على آليات العمل والمقاومة. اكتفى العرب بصيغ جاهزة في مؤتمراتهم تعلن تضامنهم المطلق مع الفلسطينيين، وتستقبل الوفود الإسرائيلية، وفود السياح والمستثمرين والخبراء! فترتب عن ذلك كثيرٌ من العجز والغموض، في موضوع العلاقات العربية الفلسطينية. ومقابل ذلك، حصلت مكاسب سياسية كثيرة في الراهن الإسرائيلي، واتّسع سلم اختلال ميزان العلاقات الفلسطينية مع دولة الاحتلال.

انخرطت الأنظمة السياسية العربية في زمن التطبيع، بكل طقوسه وبرامجه، في التعاون والتضامن، برعاية ودعم الحليف الصهيوني الأكبر، الغرب، الذي ساهم منذ أزيد من قرن في رسم الخطط الكبرى لعملية غرس الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي، ويواصل اليوم بقيادة الولايات المتحدة، وضمن سياق شروط تاريخية جديدة، البحث عن الوسائل التي تُمكِّنه من مزيد من ترسيخ هذا الحضور. تعاقبت المعاهدات، وارتفعت زغاريد الأنظمة المطبّعة مرحبةً بالأدوار المرتقبة من إسرائيل، في إسناد مشاريع التنمية العربية ودعمها! والمساهمة في بناء شرق أوسط جديد، حُلم شيمون بيريز الأكبر، ورسالة اللوبي الصهيوني في عالم جديد. يحصل هذا مقابل نزول أسهم المساندة الفعلية للفلسطينيين ومناطق الحكم الذاتي المتعثّر في الضفة والقطاع.

وصل التدهور العربي إلى حالةٍ أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع بعضهم إلى بعض

وصل التدهور العربي إلى حالةٍ أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع بعضهم إلى بعض، والتفكير في كيفيات مواجهة القِوى الإقليمية والدولية. وتَخَطَّى الصراع المتواصل في العراق وسورية وليبيا واليمن وفي الخليج العربي سياقات الربيع العربي وتداعياته. أصبح العرب اليوم خارج منطق زمن الثورات العربية، أي خارج معادلات الإصلاح والثورة، وخارج منطق مواجهة الصهيونية ومواجهة الاستبداد والفساد.

ترتّب عن عمليات التطبيع الجارية اختفاء الحدود الدنيا من شعارات التضامن العربي، تُرك الفلسطينيون للخلافات الناتجة عن اتفاق المبادئ ومشروع الحكم الذاتي، وتحوّل الانقسام الفلسطيني إلى ظاهرةٍ ثابتة، وحصل نوع من نسيان المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني. دخل العرب اليوم زمن التباهي بالتطبيع، وأصبح المحتلّ عنواناً يمتلك الكفاءات التي تجعلنا نتجنّب مخاطر الغزاة الآخرين، تحوّل الصهاينة إلى خبراء في السياحة والتطبيب والمخابرات، وتقنيات حراسة الحدود والفضاءات. أحكموا خناقهم على جنين الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. ونتصوَّر أن لا حلّ خارج مبدأ المواجهة بالمقاومة، ولأن العجز العربي مكشوفٌ ومُعلن، آن الأوان للحديث عن المقاومة الصامتة، المقاومة بالصمت الذي لا يكافئ درجات الغليان التي تملأ اليوم الأرض والسماء في عزّ الصيف. المقاومة بالصمت طريق آخر يستعدّ لإطلاق صفيره الحاد، إطلاق صوته بالزعيق وبالبكاء والغناء الحزين.

لا يجب أن نتردّد أو نخجل من الحديث عن إمكانية المقاومة بالصمت والجفاء والغضب الصامت

لم نتمكّن بعد من إيجاد اسم مناسب للمقاومة الصامتة والمقاومة بأصوات أخرى. ولا نعرف مختلف النتائج التي يمكن أن تترتّب عنها. وإذا كان المطبّعون قد منحوا مظاهر التطبيع أسماء وصفاتٍ معينة، في نشرات أخبارهم الصباحية والمسائية، من دون أي شعور بالحرج في أنها تلتقي وتتقاطع، في نشرات الأخبار نفسها، مع العدوان الإسرائيلي المتواصل على الفلسطينين، فكيف لا نَعُدّ الصمت من وسائل المقاومة؟

لا يجب أن نتردّد أو نخجل من الحديث عن إمكانية المقاومة بالصمت والجفاء والغضب الصامت، فعندما نكون أمام جبروت خيارات مواقف وسياساتٍ لا نستطيع اليوم مجابهتها، ومغالبة صور اختراقها وجودنا، فلن يمنعنا أحدٌ من لبوس حال الصمت، بكل المزايا التي يستبطن والآفاق التي يفتح أمامنا. الصمت هنا خيارٌ مؤقّت، يُفضي، آجلاً أو عاجلاً، إلى طريقٍ لا أحد يستطيع أن يتكهّن الآن بمزاياه أو نواقصه. ولنواصل معاينة أحوال الفلسطينيين، لنواصل تضميد جراحنا، ولا نتوقّف عن الصراخ والغضب المقاوم والصامت.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى