رأي

التضامن المُكلف: لماذا انخفض التضامن مع فلسطين؟

كتب منذر ياسين في الجزيرة.

طوفانٌ بشري في الأردن، وسيلٌ من الجماهير في اليمن، ودعواتٌ لمظاهرة مليونية في العراق، ورفع العلم الفلسطيني في لندن، وفزعة كويتية لفلسطين، وهتاف “الحرية لفلسطين” في أسكتلندا، ومسيرات في شيكاغو وإسطنبول وأوتاوا وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول، كلّها مظاهر دعم وتأييد وتضامن يشهدها العالم على إثر معركة “طوفان الأقصى” التي يخوضها قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل الجاري.

يحاول المقال قراءة المشهد التضامني مع فلسطين، ويرصد أهم مظاهره على صعيد دول العالم، والوطن العربي والإسلامي. ويسعى للإجابة على سؤال: هل تغيّر شكل التضامن بين معركتي “سيف القدس” عام 2021 و”طوفان الأقصى” عام 2023؟ وما السياقات التي تُحيط بهذا النوع من التضامن؟

كيف تضامنوا مع “طوفان الأقصى”؟

تشهد معركة “طوفان الأقصى” الحالية تضامنا عربيا وإسلاميا واسعا مع المقاومة الفلسطينية. ملأت الجماهير العربية والإسلامية الشوارع في إيران وتركيا والعراق وموريتانيا واليمن والبحرين والكويت وقطر وتونس والمغرب، وفي لبنان التي تعالت فيها الهتافات المطالبة لـ “حزب الله” بالتدخل إسنادا للمقاومة، وفي الأردن التي خرج فيها طوفان بشري كبير يُطالب بفتح الحدود مع فلسطين وتقديم الدعم للمقاومة في معركتها.

أما على المستوى العالمي، فخرجت عدّة مسيرات في السابع والثامن من أكتوبر/تشرين الأول، في مدن غربيّة مثل: برلين ولندن ومارسيليا وشيكاغو، تأييدا للشعب الفلسطيني ومقاومته. كما أعلنت بعض الأحزاب اليسارية دعمها للمقاومة، مثل حزب “فرنسا المتمردة” اليساري الذي قال إن هجوم “كتائب عز الدين القسام” تتحمل مسؤوليته “إسرائيل” وسياساتها القمعية، وأن الهجوم هو رد فعل طبيعي لأي حركة مقاومة، الأمر الذي عرّض الحزب لهجوم كبير من رئيسة الوزراء، وطالته اتهامات بـ “معاداة السامية” و”تأييد الإرهاب”.

وفي أسكتلندا، هتفت جماهير نادي “سلتيك” لفلسطين، مؤيدة في مباراتها الأخيرة لكرة القدم المقاومة، ممّا اضطر إدارة النادي لإخراج بيان يهاجم رابطة المشجعين ويتبرأ من التضامن مع فلسطين. ولا يزال التراشق الإعلامي بين ألتراس الفريق وإدارة النادي مستمرا، إذ اعتبرت الجماهير أن إدارة سيلتيك خانت القضية الأصلية وتخلّت عن أصول وأعراف النادي الداعم لكل الشعوب الكادحة والمقهورة.

بينما كان التضامن المباشر مع الشعب الفلسطيني شبهُ غائب من المشاهير العالميين، وحتى العرب منهم، باستثناءات قليلة، مثل: رياض محرز ومحمد النني لاعبي كرة القدم، وأُنس جابر لاعبة التنس، ومحلّل قنوات “بي إن سبورتس” طارق ذياب الذي أخذ يتغنّى بأبي عبيدة، المتحدث باسم “كتائب القسام”، كما قدّم المعلّق الرياضي عصام الشوالي مقدمة كاملة عن قطاع غزة وبطولات المقاومة، ونشر محمد أبو تريكة والمغني تامر حسني والممثل محمد هنيدي، منشورات داعمة لفلسطين عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. فيما مثلا، تعرّض لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح، لانتقادات واسعة، بسبب عدم إعلانه -حتّى الآن- التضامن مع فلسطين.

وإذا ما راجعنا حسابات عدد من المشاهير العالميين، الذين سبق لهم أن أعلنوا تضامنهم مع فلسطين، لا نجد أي شعارات أو منشورات حديثة تؤيد الشعب الفلسطيني وما يمرّ به من قصف وتدمير. فيما اكتفى البعض، مثل الممثل والمخرج مارك رافالو بإظهار حزنه على الطرفين، في مساواة لا أخلاقية بين المُستعمِر والمُستعمَر.

كيف تضامنوا مع “سيف القدس”؟

شهدت معركة “سيف القدس” عام 2021 تضامنا عالميا كبيرا مع المقاومة، فتسابقت الشعوب إلى الشوارع للتعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني في أغلب عواصم العالم، حيث شهد يوم 15 مايو/أيار 2021 أكثر من 49 مظاهرة تضامنية في أوروبا، و22 أخرى في الولايات المتحدة الأميركيّة.

كما أعلن العديد من المشاهير تضامنهم مع فلسطين، مثل: عارضة الأزياء الأميركية بيلا حديد، والممثلة البريطانية إيما واتسون، والممثل والمخرج مارك رافالو الذي هاجم “إسرائيل” أكثر من مرة على منصته في موقع “إكس” (تويتر سابقا)، إذ استمر تضامنه مع الأحداث في فلسطين إلى ما بعد الحرب وحتى استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة.

بالإضافة إلى ذلك، ضجّت العواصم العربية والإسلامية بالحدث، وهبّت نصرة للمسجد الأقصى من ماليزيا إلى المغرب، وهوجمت السفارات الإسرائيلية الموجودة في بعض هذه الدول، بل وطالبت الشعوب دولها بالتدخل نصرة لفلسطين ودعما للمقاومة. كما شهدت الحدود اللبنانية والسورية والأردنية، زحفا شعبيا كبيرا باتجاهها، للتعبير عن التضامن مع فلسطين، وقد سُجلت بعض الحالات التي وقعت فيها محاولات لاجتياز الحدود إسنادا للمقاومة.

التضامن المُكلف

تبدو حركة التضامن العالمية مع فلسطين خلال معركة “طوفان الأقصى” أقل منها في معركة “سيف القدس”، أو حتّى الآن على الأقل، وقد نعزو ذلك لعدة أسباب تتضح من نوعية الالتفاف الموجودة وحجم الدعاية الغربيّة المضادة للمقاومة الفلسطينيّة.

إنّ الدور الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام العربية والعالمية في نقل أحداث المسجد الأقصى وحي “الشيخ جراح” قبل معركة “سيف القدس”، مما أسهم في حشد الرأي العام العربي والعالمي للتضامن مع فلسطين وتأييد المقاومة الفلسطينية في حقها بالدفاع عن الفلسطينيين. أما في المعركة الحالية فرغم كل أنواع القمع الذي مارسته الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، إلا أنه لم يجد تغطية إعلامية على غرار ما حدث عام 2021.

قبل معركة “سيف القدس”، كان هناك مؤشرات واضحة على قرب تدخل المقاومة للدفاع عن المسجد الأقصى، وكانت الأحداث قد اشتعلت بالفعل من قبل الناس في القدس وأراضي عام 1948 وبشكل أقل في الضفّة. بالإضافة إلى تهيئها لرؤية الرشقات الصاروخيّة تخرج من قطاع غزّة تحديدا بعد تغريدة أبو عبيدة، الناطق باسم “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، الذي حذّر من استمرار الانتهاكات في القدس، وذلك كردة فعل من المقاومة على قضايا الناس الجامعة.

في المحصّلة، كان الدعم الشعبي والتضامن العالمي موجودا قبل بداية “سيف القدس”، ولكنه تضاعف مع دخول المقاومة لاحقا إلى المعركة. وهو ما يختلف مع الإعلان عن معركة “طوفان الأقصى”، فالطوفان جاء في وقت الحديث عن التهدئة ولم يسبقه زخم إعلامي وتعبئة للرأي العام ضد ما يحدث في القدس كما حصل في السابق، وقد أثر ذلك في استجابة حركة التضامن العالمية.

شهدت “سيف القدس” دوليا نوعا من إلقاء اللوم على “إسرائيل” وممارساتها العنصرية في القدس، وهو ما فتح الباب أكثر أمام المتضامنين، وخصوصا الأجانب في الإعلان عن تضامنهم مع فلسطين. أما في المعركة الحالية، فقام معظم قادة العالم بدعم “إسرائيل” بشكل واضح وصريح، فمثلا، أصدر قادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بيانا مشتركا أعلنوا فيه “دعمهم الثابت والموحد” لدولة الاحتلال، وأنهم “ينسقون معا لضمان قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها”.

كما أثرت طبيعة بداية معركة “طوفان الأقصى”، بشكل أو بآخر، على جرأة الإعلان عن التضامن عالميا. فصورة “وحدات النخبة” القسامية التي تقتحم المستوطنات الإسرائيلية، بر وبحرا وجوا، وتقتل وتأسر جنود الاحتلال، غالبا ما أخافت البعض من الإعلان، وربّما قد غيّرت موقف البعض بشكل كلّي. فوضعيّة المُستضعف التي تضامنت من أجلها فيما سبق بعض الشرائح، تحوّلت في هذه المعركة إلى وضعيّة القويّ الغالب، وبالتالي لم يعد جذّابا مثل هذا النوع من التضامن، بل وأصبح مكلفا.

دول لصناعة الرواية

كذلك، سجّلت “طوفان الأقصى” عشرات القتلى من حملة الجوازات المزدوجة، إذ أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول عن عشرات القتلى والمفقودين من المستوطنين الذين يحملون جنسيات أجنبية، ممّا أدى إلى تصدير رواية بأنّ المقاومة الفلسطينيّة تعاديهم وتعادي شعوبهم.

على صعيد آخر، كانت عدة حكومات أوروبية قد اتخذت خطوات لتقييد حركة التضامن الدولية مع فلسطين، من خلال تشريعات برلمانية وقانونية وإجراءات مختلفة. لعل إعلان وزيرة الداخلية البريطانية عن تجريم رفع العلم الفلسطيني والهتاف لفلسطين، مثال واضح على مدى انحياز هذه الحكومات لـ “إسرائيل”، ما يجعل تضامن الناس على الأرض مُهدّدا بفزّاعة من الاتهامات بـ “معاداة السامية” و”مناصرة الإرهاب” وغيرها من الشعارات الجاهزة، فهتاف “فلسطين حرة” قد يكون سببا للاعتقال في دولة كبريطانيا.

أما الحكومة الألمانية، فتقوم منذ “سيف القدس” بقمع الحريات وحظر المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني. يظهر ذلك في منع مظاهرات في ذكرى النكبة عام 2022، وفي حظر فعالية يوم الأسير في 17 أبريل/نيسان 2023 بحجّة “معاداة السامية”، كما فرضت الحظر على الناشط “مصعب أبو عطا” لمنعه من تنظيم فعاليات مناصرة لفلسطين.

في حين منعت فرنسا مظاهرات مؤيدة لفلسطين في باريس، خلال معركة سيف القدس، وتحديدا في ذكرى النكبة 15 مايو/أيار. ليس ذلك فحسب، بل اعتقلت الشرطة الفرنسية برتراند هايلبرون، رئيس جمعية التضامن الفرنسي مع فلسطين. كما أعلن ماكرون عن تقديم بلاده كل الدعم الذي تحتاجه “إسرائيل” في المعركة الحالية، بالإضافة إلى إضاءة برج “إيفل” بعلم دولة الاحتلال، وتظاهر آلاف المؤيدين لـ”إسرائيل” في باريس بحراسات أمنية مشددة.

عملت “إسرائيل” وحلفاؤها على تجريم المقاومة الفلسطينيّة وتشنيعها وإظهارها في مظهر إجرامي، عبر اختلاق الأكاذيب حول سلوك المقاومة مع الأسرى الصهاينة في مستوطنات “غلاف غزة”. بل وصل الأمر بالرئيس الأميركي بايدن، تشبيه حركة “حماس” بـ “داعش”، وتزوير هدف المقاومة بالتخلص من ظلم الاحتلال إلى قتل “اليهود” لمجرد كونهم يهودا، بغية قلب الرأي العام العالمي وتأليب الناس على المقاومة الفلسطينيّة وإضعاف حركة التضامن مع فلسطين، بل وشيطنتها في العالم.

التضامن مهم، ولكن!

قد تكون كثافة التضامن مع فلسطين انخفضت في الغرب، إلا أنّ بعض المدن والعواصم لا تزال تشهد دعما على الرغم من كلّ التقييدات المفروضة، مثل: لندن ومارسيليا وبوردو وشيكاغو وبرلين. لكنّه تضامنٌ فاقد للزخم الكبير الذي كان عليه في معركة “سيف القدس” قبل عامين.

في “سيف القدس” كان التضامن مع الفلسطيني سهلا غير مكلف، حتى إن كثيرين كانوا يتضامنون مع ما يحدث، من باب كسب الجماهير التي تقف إلى جانب فلسطين. وهو ما جعلنا نرى استقطابا واسعا للقضية الفلسطينيّة، من قبل مؤثرين وسياسيين ورياضيين وفنانين، يعلنون تضامنهم مع فلسطين مرارا وتكرارا عبر منصاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

ممّا لا شك فيه، بأنّ التضامن العالمي مع فلسطين شديد الأهميّة، لما يترتب عليه من تحقيق إنجازات على مستويات عدّة، كالمقاطعة الاقتصاديّة ونبذ دولة الاحتلال وخلق بيئة صديقة أو غير معادية تعترف بالرواية الفلسطينيّة المضادة لـ “إسرائيل”. غير أن الاهتمام بالمحافظة على حركة التضامن، لا يجب أن تعني بأي حال من الأحوال أن يخسر الفلسطينيّ قدرته على المقاومة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى