رأي

البرهان كل شيء ونقيضه

هناك أكثر من لسان ينطق به البرهان في التعامل مع الصراع الراهن والمضي على هذا المنوال سوف يجعل من الصعب أن يحقق الجيش نصرا ماديا أو معنويا على قوات الدعم السريع.

يسهل على أيّ مراقب للأوضاع في السودان أن يستشف حجم التناقضات في الخطاب السياسي العام لقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان ويستخرج منه ما يكفي لتأكيد أن هناك خلافات تنخر المؤسسة التي يقودها، ولم تعد قاصرة على مجموعة محدودة وتزايدت بصورة علنية بما يضعف منسوب الثقة في الجنرال داخليا وخارجيا.

عكس بيان الخارجية السودانية حيال قمة هيئة إيغاد الطارئة في جيبوتي أخيرا فجوة كبيرة بين التصورات والتصرفات، فالبرهان هو الذي طلب عقد هذه القمة وقام بزيارات إلى دول رئيسية في إيغاد لأجل تصويب مسار العلاقات وتحجيم الخلافات معها ثم انقلب على بيانها، وبصرف النظر عن مضمون بياني السودان وإيغاد فقد عبّرا عن هوة لا تساعد التحركات السياسية المنتظر القيام بها لوقف الحرب.

كشفت الصفات السلبية التي أسبغتها شخصيات سودانية من مشارب مختلفة على بيان الخارجية، بدءا من عدم اللياقة الدبلوماسية وحتى السقطة السياسية، عن ثغرة تتسع بين الجيش ومن وقفوا في صفه منذ البداية، باعتباره المؤسسة الرسمية القادرة على حماية وحدة البلاد واستقرارها وأمنها، ويمثل ابتعاد هذه النخبة عن الجيش ضربة قوية، لأن بعضها تبنى خطابا وطنيا واعتقد أن البرهان يستطيع بلورته عمليا وعدم السماح للحرب أن تتسع بالطريقة التي أصبحت تمثل تهديدا للدولة السودانية.

قدم الجنرال البرهان وعودا كبيرة للسودانيين بقدرته على حسم الصراع مع قوات الدعم السريع في غضون أيام قليلة، ومضى نحو ثمانية أشهر على اندلاع الحرب ولم تتحقق وعوده، على العكس بدأ موقفه العسكري يهتز كثيرا مؤخرا، ما جعل شريحة كبيرة من السودانيين تبحث عن تطلعات أخرى، وإن لم تنضم إلى الفريق الخصم فقد حافظت على مسافة واحدة بينهما مثل الكثير من القوى الإقليمية والدولية.

تُذكّر تنقلات البرهان في مواقفه السياسية بالرئيس السابق عمر البشير الذي قادته تحولاته لنسج علاقات مع جهات متضاربة، منها اليقين بأهمية السلام وشن الحرب على قوى معارضة، والانفتاح على الولايات المتحدة ثم الانقلاب عليها، وظهرت تطورات أفقدت جهات عديدة الثقة بتحركاته مع أن بعضها حمل مضمونا سليما.

دخل قائد الجيش السوداني هذا الشرك السياسي مبكرا وقبل أن تندلع الحرب بسنوات، ومهما كانت تفسيراته ومبرراته ومواءماته تجاه القوى المختلفة التي اقترب وابتعد عنها، أو عقد معها اتفاقات وتهرّب منها، فقد وضعته من دون أن يدري في خانة واحدة مع ما كان البشير يقوم به من قبل.

الأخطر أن ما قام به البشير من براغماتية – انتهازية مع غالبية من تعامل معهم من الدول والقيادات والقوى السودانية، هو سمة إخوانية بامتياز باتت متداولة في أدبيات سياسية عدة، وعندما يقتدي البرهان بهذه الصفة وتظهر في بعض توجهاته فهو يوحي وكأنه شبيه بالبشير في خصاله وربما ممارساته أيضا.

لذلك في كل مرة ينكر قائد الجيش علاقته بجماعة الإخوان وينفي عدم تبني أجندتها السياسية ويدرأ الاتهامات التي توجه إليه بشأن تسخير المؤسسة العسكرية لتحقيق أهدافها لا يكون مقنعا للكثيرين، خاصة أن الحرب أثقلت عليه وأجبرته أحيانا على الإسراف في المراوغات التي لم تمكنه من الحفاظ على أصدقاء قدامى أو كسب جدد.

يمكن أن يكون البرهان عسكريا محترفا وبلا هوية عقائدية دينية، لكن ما يقوم به يضعه تلقائيا في صف الإخوان ويحسب عليهم بالحق أو الباطل، وما يضعف خطابه الوطني أن تنقلاته المتسارعة تشير إلى الكثير من خصال الحركة الإسلامية التي تجيّر مقدرات السودان لأجل خدمة أغراضها أولا، ولا يضرها إذا ضحّت بجزء من كيان الدولة مقابل أن تحافظ على جزء آخر تعتقد أنها ستفرض هيمنتها عليه.

يقلل التذبذب والمراوحة والتحول في المواقف مصداقية الدول والأشخاص، وبالطبع القيادات، ويجعل تعامل الآخر معهم سواء أكان حليفا أم عدوا على قدر عال من الشكوك في ما يقدم عليه من تحركات.

مكّن نهج البرهان الفترة الماضية خصومه من تثبيت اتهامات “الأخونة”، وجعل من كانوا قريبين منه ورأوا أهمية في دعم الجيش السوداني يحتفظون بمسافة بعيدة عنه وخفّضوا سقف رهاناتهم عليه في حسم الصراع عسكريا وسياسيا.

حققت قوات الدعم السريع مكاسب كبيرة في الصراع مع الجيش السوداني الفترة الماضية، ليس فقط لقوتها العسكرية أو حنكتها السياسية أو تفوق آلتها الإعلامية، لكن لأن قائد الجيش ورفاقه لم يتبنوا إجراءات مقنعة على هذه الجبهات، وبدا ضعفهم جليا في استمرار مساواة المجتمع الدولي بين الجيش وبين خصومه الذين اكتفى رجاله بالدعاية ضدهم والعزف على وتر “المتمردين”، على أمل كسب ثقة من يتخذون موقفا سلبيا من الجماعات المسلحة والقوات الموازية للقوى النظامية.

تجاهل الجنرال البرهان أن قوات الدعم السريع جرى تقنينها وأصبحت جزءا من المؤسسة العسكرية السودانية، وقائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) كان رفيقا مقربا له خلال الفترة الانتقالية السابقة على الحرب، وهو ما قوّض جانبا كبيرا من الطعن في توجهات حميدتي، وقلص فرص عدم المساواة بينهما.

قد تكون هناك حسابات متعددة لدى جهات متباينة معنية بالصراع وتداعياته أفضت إلى المساواة بين الجنرالين، لكن المؤكد أن أحد تجليات الحرص على التوازن يكمن في تراجع الثقة بقائد الجيش نفسه، لأن العمل وفقا لقاعدة “الشيء ونقيضه” طوال الوقت لا يسمح بالتعاطي بجدية مع صاحب خطاب يمكن أن يتغير بين فينة وأخرى، ويفتقد إلى قدر منطقي في حالة التحول من وإلى، أو العكس.

أدت الحالة التي ظهرت مفردات كثيرة منها في التعامل مع مبادرات وقف الحرب من جهتي منبر جدة والوساطة السعودية – الأميركية، وبعدها خارطة إيغاد، وبينهما تحركات من جانب قوى إقليمية ودولية، فردية وجماعية، إلى اليقين بأن هناك أكثر من لسان ينطق به البرهان ومن يلتفون حوله في التعامل مع الصراع الراهن، والمضي على هذا المنوال سوف يجعل من الصعب أن يحقق الجيش نصرا ماديا أو معنويا على قوات الدعم السريع الفترة المقبلة.

يتخذ تكاثر الألسنة داخل الحلقة الضيقة المحيطة بالبرهان دليلا على عدم القبض على زمام الأمور نحو توجه محدد، فما يتم تبنيه اليوم يمكن أن يتغير غدا، في وقت تلعب فيه التقديرات المتضاربة دورا مهما في تعدد لون الخطاب السياسي.

كما أن الضغوط التي تمارس من قبل قيادات إسلامية لن تساعد البرهان على تبني منهج وطني شامل، فإذا أراد الرجل الابتعاد عن هذه الطغمة لن يتمكن من تجاوز ألاعيبها بعد أن نصبت شباكها داخل الجيش ومن حوله.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى