بالتوازي مع تصاعُد جرائم المستوطِنين في الضفة الغربية المحتلّة، والتي تنبئ تجلّياتها الأخيرة بأن عدوانية هؤلاء تتّجه نحو التحوّل إلى إرها/ب مطلق وأكثر اتّساعاً وبعيد من أيّ قيود، مستفيدةً من أجواء الدعم والحماية التي توفّرها لها حكومة بنيامين نتنياهو العتيدة، تَسنّ الجماعات المتطرّفة، هي الأخرى، وبالتظلّل تحت الغطاء نفسه، أسنانها لتصعيد انتهاكاتها في المسجد الأقصى، وهو ما بدأ بالفعل منذ يوم أمس. وتنذر هذه التطوّرات بأن الحرم القدسي سيكون في الفترة المقبلة في بؤرة التوتّر، خصوصاً مع إعلان مجموعات المقاو/مة في الضفة النفير العام دفاعاً عن المسجد.
تتّجه «دولة المستوطِنين» في الضفة الغربية المحتلّة، إلى إرساء قواعدها على نحو أكثر وضوحاً وعدوانية خلال الفترة القليلة المقبلة، وفق ما أظهرتْه مؤشّرات عدة، آخرها ارتكاب مستوطِن جريمة دهس متعمّدة مساء السبت قرب زعترة، استشه/د على إثرها الشابّان محمد ومهند مطير. وفي تفاصيل الجريمة، أقدم مستوطِن على دهس الشقيقَين بشكل متعمّد، بعد أن توقّفا برفقة أشقّائهما الثلاثة لإصلاح سيّارتهم بجوار الطريق أثناء عودتهم من نابلس. وبينما أوقف الشبّان الثلاثة سيّارتهم في المساحة المخصَّصة على جانب الشارع، واتّخذوا كلّ إجراءات السلامة المتّبَعة لذلك، فقد أكد شقيق الشهي/دَين أن المستوطِن الذي نفّذ الجريمة كان يسير وسط الشارع، والرؤية واضحة أمامه، والشبّان في مكان مكشوف له، لا سيما وأن هناك عاكساً كانوا وضعوه بقربهم، وضوء سيّارتهم مشتعل أيضاً، فضلاً عن أنهم ومركبتهم كانوا بعيدين من مسار حركة السيارات المسافرة على الطريق. وقال: «قبل نحو 20 متراً منا، انحرف المستوطِن بسيارته باتّجاهنا، وصدمنا. لقد كان ينوي أن يقتلنا نحن الخمسة جميعاً، ولكن أنا واثنان من إخوتي تمكّنا حين شاهدناه ينحرف نحونا من الهرب إلى الجبل، في حين لم يستطع مهند ومحمد ذلك، لأنهما كانا يضعان عجلة السيارة في الصندوق، ما أدى إلى استشه/ادهما، ونجونا نحن الثلاثة».
وليست هذه الجريمة الأولى من نوعها التي يرتكبها المستوطِنون في الضفة، لكنها قد تكون تجلّياً شديد الوضوح للنهج الدموي الذي سيسير عليه المستوطِنون في الفترة المقبلة، بخاصة مع توافر أجواء التحريض والتأييد لهم من حكومة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتيرتش، في ظروف قد تكون مشابهة لما رافق جرائم العصابات الصهيونية التي سبقت احتلال فلسطين عام 1948. ويبدو أن إرها/ب المستوطِنين الذي كان دوماً جزءاً من سياسة حكومة الاحتلال، عبر رعايتها إياه ضمن أدواتها للسيطرة على الأرض وطرد الفلسطينيين، قد يتعاظم في الفترة المقبلة، ليصبح إرها/باً مطلقاً وأكثر اتّساعاً ومن دون أي قيود، كأحد أدوات ترسيخ «دولتهم» في الضفة، بالتوازي مع ضمّ الأراضي، وتشريع البؤر الاستيطانية، والعربدة على الشوارع والطرق بين المدن الفلسطينية، لتتحوّل هذه الأخيرة إلى «كانتونات» منعزلة، يخشى سكّانها التنقّل. إلى جانب ذلك، وعلى ضوء محاولات فرض السيادة والتوسّع على حساب الفلسطينيين، لا يخفي المستوطِنون اعتقادهم بأن الفترة الحالية قد تكون الذهبية لتنفيذ مخطّطاتهم في المسجد الأقصى، والتقدّم خطوة إضافية نحو السيطرة عليه، وهو ما اتّضح في اليوم الأول لما يُعرف بـ«عيد الحانوكاه»، حيث سُجّلت اقتحامات واسعة بحماية من الشرطة، ستستمرّ لمدّة 8 أيام، وسيُجري خلالها المستوطِنون جولات استفزازية في باحات المسجد، كما سيؤدّون طقوساً تلمودية في المنطقة الشرقية منه وعند أبوابه الخارجية، وسط تضييق وملاحقات للمرابطين والمرابطات. ومن المتوقّع أن يشهد الأقصى مزيداً من الانتهاكات الإسرائيلية خلال فترة العيد اليهودي، التي تمتدّ حتى الـ26 من الجاري، في ظلّ حكومة الاحتلال المتطرّفة، والتي لا تخفي نيّتها تهويد الحرم القدسي، وفرض التقسيم الزماني والمكاني عليه. ولعلّ ما يدلّ على تلك النوايا شديدة الخطورة، سماح شرطة العدو بانتزاع يافطة معلَّقة في البلدة القديمة في القدس المحتلة كانت تفرض قيوداً على صلاة المستوطنين في المسجد، ووضع أخرى مكانها تحثّهم على ذلك.
أيضاً، تتطلّع «جماعات الهيكل» إلى إضاءة شمعدان «الحانوكا» داخل الأقصى، وهي تسعى منذ عام 2017 إلى تطوير عدوانها خلال «عيد الأنوار»، ليتحوّل إلى ساحة الإمام الغزالي أمام باب الأسباط مباشرة، بحيث تشعل الشمعدان بمحاذاة الباب تماماً، مطالِبةً بإدخال طقوس إشعاله إلى المسجد. ونصبت الحاخامية الرسمية، بالتعاون مع ما يُسمّى «صندوق تراث الحائط الغربي»، وبلدية الاحتلال في القدس المحتلة، شمعدان الاحتفال المركزي في ساحة البراق غرب الأقصى، وأعلنت أن إشعال الشمعدان سيتمّ كل يوم في تمام الساعة 4:30 مساءً. ويأتي ذلك فيما يتواصل التحريض غير المسبوق على المسجد الأقصى وعلى المقدسيين، من قِبل جماعات الهيكل والمؤسّسات الاستيطانية، في ظلّ دعم رسمي تتلقّاه من حكومات الاحتلال. وهو دعمٌ سيسجّل دفعة قوية مع الحكومة المقبلة من قِبل بن غفير، الذي وعد بالعمل على تغيير الوضع القائم حالياً، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وتغيير تعليمات فتح إطلاق النار على الفلسطينيين. وتسعى الجماعات المتطرّفة إلى فرْض ظواهر جديدة في الأقصى، تكرّس القداسة والسيادة اليهودية على المكان، في خطوة تسبق بناء «الهيكل» المزعوم. وهي محاولات تحظى بدعم سياسي؛ إذ تعهّد بن غفير بالمساواة بين المسلمين واليهود في الأقصى، مدعوماً في ذلك بـ29 نائباً ينتمون إلى ما تسمّى «كتلة المعبد» المتطرّفة، التي أعلنت دعمها تغيير هوية المسجد أو شاركت مباشرة في اقتحامه. وبهذا، باتت الكتلة المذكورة مسيطِرةً على 24 في المئة من مقاعد «الكنيست»، وهو أعلى رقم تصله في تاريخ الكيان، بعد أن كانت 25 عضواً بعد إعلان نتائج انتخابات آذار 2021، وهو ما يجعل تهويد الأقصى موضوعاً متصدّراً وأشدّ سخونة من أيّ وقتٍ مضى.
ويحدث هذا على رغم أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تدرك أن ما يقوم به المستوطِنون سيؤدي إلى انفجار شامل في الأوضاع الأمنية، لا أحد يمكنه توقّع تبعاته أو حصر حدوده. فإذا كان اقتحام أرائيل شارون للمسجد الأقصى قد فجّر انتفاضة استمرّت لمدّة 5 سنوات، فإن المخطّطات الصهيونية قد تفجّر حرباً إقليمية أوسع مما هو متوقَّع، نظراً إلى مكانة القدس في المعادلات التي أرساها وحدّدها «محور المقاومة”.
ويأتي ذلك بينما تستمرّ المقاومة في الضفة في مشاغلة العدو، لتُسجّل عملياتها في الـ24 ساعة الماضية 30، من بينها 3 عمليات إطلاق نار، وعمليتا إلقاء عبوات ناسفة، فضلاً عن اشتباكات مسلّحة دائمة خلال تصدّي المقا/ومين لاقتحامات جيش الاحتلال. أمّا المقاو/مة في قطاع غزة فليست بعيدة عمّا يجري في الضفة، وهي تدْخل العام المقبل باستحقاقات كبيرة، على رأسها ملفّا الأسرى والمسجد الأقصى، قد تضعها في مواجهة شرسة مع العدو.