رأي

اقتصاد الحرب الروسي يتصدع

كيف يمكن لأميركا وأوروبا استغلال نقاط الضعف التي تعانيها موسكو

كتبت ألكسندرا بروكوبينكو, في اندبندنت عربية:

الاقتصاد الروسي يبدو مرناً ظاهرياً لكنه ينهار من الداخل بفعل الضغوط المالية ونقص اليد العاملة والعزلة التكنولوجية، فيما يستهلك الإنفاق العسكري المفرط موارده دون مردود إنتاجي، وتوفر هذه الهشاشة فرصة أمام أميركا وأوروبا لتقويض قدرته العسكرية قبل أن يستعيد توازنه.

من أجل مواصلة حربها على أوكرانيا، عمدت روسيا إلى عسكرة اقتصادها. على رغم أن الاقتصاد الروسي ليس في حالة تعبئة حربية كاملة – خلافاً للاعتقاد السائد في الخارج – يبالغ الكرملين في الإنفاق على مصانع الأسلحة وبدأ في زيادة التجارة مع الصين للتهرب من العقوبات الغربية. وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كان أداء الاقتصاد الروسي أفضل من غالبية التوقعات بفضل الإنفاق الحكومي المفرط، وارتفاع أسعار السلع الأساس التي تصدرها روسيا، والإدارة الاقتصادية الماهرة.

الآن ثمة منظوران إلى الاقتصاد الروسي. الأول، الذي يروج له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مفاده بأن الاقتصاد الروسي أثبت مرونته على نحو مدهش وقوته الكافية للحفاظ على أهدافه العظيمة، التي لا تشمل فقط مواصلة حرب روسيا داخل أوكرانيا، بل أيضاً توسيع جيشها وتحديثه حتى تتمكن ذات يوم من مواجهة حلف شمال الأطلسي. منذ عاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، كثف بوتين من اختباراته لعزيمة التحالف. وخلال سبتمبر (أيلول) الماضي، انتهكت مسيرات روسية مجال بولندا الجوي واخترقت مقاتلات روسية مجال إستونيا الجوي. ويثق بوتين في موارده الخاصة: منذ عام 2022، توسع روسيا إنتاجها من الأسلحة حتى في مواجهة العقوبات الشديدة.

أما المنظور الآخر إلى الاقتصاد الروسي فيتلخص في أن انهياره ذات يوم محتم. لكن أياً من المنظورين ليس صحيحاً تماماً. تعد قدرة روسيا على بناء جيش قوي بالقدر الكافي لتحدي حلف شمال الأطلسي حقاً في الأجل البعيد مقيدة بفعل ضغوط متصاعدة على صعيد المالية العامة، وسوق العمل المجهدة، والعقوبات التي تمنع الوصول إلى التكنولوجيات الحيوية، وصناعة الدفاع التي تعمل بالفعل بكامل طاقتها. وفق خبراء دفاع، من المرجح أن تستغرق روسيا ما بين سبعة إلى 10 أعوام في إعادة بناء قواتها العسكرية – أي تجديد المخزون المستنفد من الأسلحة، والتعويض عن الخسائر في المعدات الثقيلة، وإعادة بناء قوة القوات والاستعداد القتالي. لكن خلال الوقت نفسه، تستطيع روسيا أن تضايق أعضاء حلف شمال الأطلسي في مقابل كلف زهيدة بالاستعانة بهجمات سيبرانية وعمليات تخريب، وقد تقرر شن هجوم صريح في وقت أقرب، نظراً إلى مسارعة الدول الأوروبية إلى تحديث دفاعاتها.

وبعد ثلاثة أعوام ونصف العام من الصراع واسع النطاق، باتت ملامح الاقتصاد السياسي الروسي تكشف حدود ما يمكن للكرملين تحقيقه. ولإفشال أهداف بوتين الكبرى، يتعين على الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تفهم بصورة أفضل نقاط الضعف طويلة الأمد في الاقتصاد الروسي، وتبدأ باستغلالها من الآن.

الاقتصاد يراوح مكانه
على رغم العقوبات والعزلة، تمكنت روسيا من مواصلة تشغيل آلتها الحربية. عام 2021، أنفق الكرملين نحو 22 في المئة من الموازنة الفيدرالية على المؤسسة العسكرية. واليوم قفزت النسبة إلى ما يقارب 40 في المئة، أو نحو ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (بما في ذلك الإنفاق على الأمن الداخلي). توسع الحكومة تصنيع المسيرات والذخائر، وتعيد تجديد مخزونات المعدات التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، وتقدم حوافز مالية سخية لتشجيع الرجال على الانضمام إلى الجيش. وتمكنت موسكو من دعم الغزو من دون وضع الاقتصاد في حال تعبئة حربية كاملة من خلال الإعلان عن تعبئة جزئية وتشجيع المصانع الدفاعية الموجودة على العمل على مدار الساعة. وتنجح الواردات الموازية – السلع التي تباع إلى روسيا من قبل طرف ثالث من دون إذن من الشركة المصنعة – والموردين الصينيين في تغطية الفجوات في المكونات المهمة الناجمة عن العقوبات. وفي الأجل القريب، كان نهج الترقيع هذا كافياً لتجديد القوات العاملة في الخطوط الأمامية وتمكين روسيا من مواصلة الحرب.

لكن هذه الإنجازات أقل إثارة للإعجاب مما تبدو عليه. كما ذكرت المحللة العسكرية دارا ماسيكوت، كانت قدرة روسيا في الصناعة الدفاعية استقرت إلى حد كبير بحلول عام 2024، باستثناء إنتاج المسيرات. وتعد غالبية المعدات التي ترسلها روسيا الآن إلى الجبهة الأوكرانية مجددة، وليس جديدة، وتكون في الغالب أدنى كفاءة من أنظمة حلف شمال الأطلسي. ولا يزال الفساد وعدم الكفاءة في القطاعات العسكرية والدفاعية مستشريين، وعلى رغم أن المكاسب الهامشية في الكفاءة ممكنة، لا يستطيع القطاعان توليد حجم الموارد المطلوبة للتوسع السريع للقوات.

وأظهرت روسيا مرونة وقدرة على التكيف من خلال الاستفادة مما يسمى التعبئة الصناعية الاحتياطة (القدرة الإنتاجية الاحتياطة التي يمكن تفعيلها بسرعة أثناء الحرب)، فضلاً عن توسيع بنيتها الأساس إلى حد ما، مثل بناء مصانع للذخيرة. لكن البلاد استنفدت احتياطاتها من القدرة التصنيعية والقوى العاملة. ولكي تتمكن موسكو من إنتاج مزيد من المعدات أو تجنيد مزيد من الجنود وتدريبهم، يتعين عليها أن تتحول إلى تعبئة حربية أكثر شمولاً من خلال توجيه الموارد المتاحة كلها نحو الحاجات العسكرية، على غرار ما فعلت أثناء الحرب العالمية الثانية، أو من خلال الاستيلاء على خطوط الإنتاج المدنية لأغراض عسكرية. مثلاً، يمكن جعل مصانع السيارات تنتج المركبات العسكرية فحسب. لكن الحكومة قاومت القيام بذلك لأنها كانت تخشى وقوع اضطرابات اجتماعية ونقص في السلع الاستهلاكية.

إشارات خطر
يعد اقتصاد الحرب الروسي ناجحاً، لكن إلى حد ما. يعاني الكرملين قيوداً ليس فقط بسبب اختناقات الإنتاج القريبة الأجل، بل أيضاً بسبب الضغوط في مجال المالية العامة، وسوق العمل المجهدة، والعزلة التكنولوجية، والقاعدة الصناعية الدفاعية المجزأة. في الواقع، يعمل الإنفاق الدفاعي كاقتصاد قائم على السلع القابلة للتصرف: تعمل المصانع بكامل طاقتها، ويحصل العاملون على الأجور، ويتصاعد الطلب على المدخلات، لكن الناتج مصمم ليتلاشى على الفور تقريباً. ذلك أن الدبابات والمسيرات والقذائف تنتج لتدمر في ساحة المعركة، وتدفع الدولة معاشات تقاعدية مدى الحياة إلى الجنود الجرحى وتوفر مزايا إلى أسر القتلى. تدعم هذه الدورة تشغيل العمالة والنشاط الصناعي في الأجل القريب لكنها لا تولد أصولاً دائمة – مثل الطرق السريعة، ومحطات الطاقة، والمدارس – أو مكاسب في مجال الإنتاجية، مما يجعل الاقتصاد أكثر انشغالاً لكن أكثر فقراً مع مرور كل عام من أعوام الحرب.

المؤشرات المالية في روسيا تظهر إشارات خطر. تتراجع عوائد النفط والغاز بسبب انخفاض الأسعار، وارتفاع الكلف اللوجيستية، وتقلب أسعار الصرف، والتهديد بتوسيع العقوبات. وخلال النصف الأول من عام 2025، تقلصت الإيرادات الفيدرالية بنسبة 16.9 في المئة. وصممت وزارة المالية موازنتها لعام 2026 حول سعر مفترض لبرميل النفط يبلغ 59 دولاراً، انخفاضاً من 67 دولاراً في مسودة الموازنة السابقة، ومن المرجح أن تعدل السعر المقدر إلى مستويات أدنى.

بوتين رسم وجه روسيا على صورته
وتزداد العوائد غير النفطية، لكن ليس بالسرعة الكافية للتعويض، ولا سيما مع تباطؤ النمو الاقتصادي في روسيا. لقد توسع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.1 في المئة فقط على مدى الأشهر السبعة الأولى من العام، وهذا يمثل تباطؤاً حاداً بعد عامين من النشاط المفرط. وسجل الناتج المحلي الإجمالي الروسي نمواً بلغ 3.6 في المئة عام 2023، ثم 4.1 في المئة عام 2024، وذلك بسبب الإنفاق الحكومي الهائل الذي غذى أيضاً ارتفاع الأسعار الخاصة بالمستهلكين. وكان النشاط المفرط غير قابل للاستمرار، لكن التباطؤ اليوم يكشف عن هشاشة اقتصاد الحرب الذي يعتمد على حوافز المالية العامة المستمرة لإخفاء نقاط الضعف البنيوية الأساس.

ولسد فجوة الإيرادات، تلجأ الحكومة إلى ما تسميه “تعبئة العوائد” – أي توسيع الغرامات والعقوبات والرسوم الحكومية. عام 2024، رفعت الحكومة الضرائب على المداخيل والشركات. والآن، وفق مسودة الموازنة، يفكر الكرملين في زيادة ضريبة القيمة المضافة في البلاد بمقدار نقطتين مئويتين، مما قد يولد 14.3 مليار دولار. وإضافة إلى هذا، تخطط السلطات لخفض بمقدار ستة أضعاف لعتبة الإيرادات التي يتعين على الشركات عندها أن تبدأ في دفع ضريبة القيمة المضافة، بالتالي توسيع قاعدة دافعي الضرائب بهامش كبير.

للمرة الأولى منذ بدء الحرب، يتوقع توقف الإنفاق العسكري الروسي عن النمو

وزير الدفاع أندريه بيلوسوف المتخصص أكاديمياً في الاقتصاد طمأن بوتين إلى أن الإنفاق الدفاعي المستدام عام 2026 وما بعده، مقترناً بتحسين المشتريات الحكومية، من شأنه أن يدفع النمو الاقتصادي الأوسع نطاقاً وأن يحفز الاقتصاد المدني. وتتضمن استراتيجيته توسيع المشتريات لتشمل الشركات الخاصة الأصغر حجماً و”مركز روبيكون للأنظمة المتقدمة غير المأهولة”، وهو مؤسسة للبحث والتطوير في مجال المسيرات، من خلال التعاقد المبسط والتمويل المباشر للتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج.

وفق تفكير بيلوسوف، عندما تعمل الدولة لتوليد طلب صناعي كبير لأغراض عسكرية، تبدأ المصانع في إنتاج تكنولوجيات جديدة بكميات ضخمة، مما يجعلها أرخص وأكثر موثوقية. حدثت هذه العملية في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الـ20. مع سعي وزارة الدفاع الأميركية ووكالة “ناسا” إلى شراء المواد اللازمة لبرنامج الصواريخ “مينيتمان 2” وبعثات “أبولو” الفضائية، أوجدت طلباً مستداماً على الدوائر الكهربائية المتكاملة، مما سمح للمصنعين بتحقيق أحجام الإنتاج اللازمة لخفض الكلف. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة موطناً لصناعة الحوسبة الحديثة.

لكن البنية الاقتصادية الروسية تختلف جوهرياً عن النظام الأميركي المفتوح الذي مكن آثاراً غير مباشرة كهذه من العمل. والواقع أن اندفاع بوتين نحو الاكتفاء الذاتي كان سبباً في إنشاء اقتصاد شبه منضبط حيث يولد كل ضخ للسيولة أو الائتمان المدعوم طلباً يصطدم بقيود العرض الصارمة. لا تستطيع الشركات الروسية زيادة الإنتاج بسرعة بسبب الاختناقات اللوجيستية، والقيود التكنولوجية، والنقص المزمن في القوى العاملة. بدلاً من توليد مزيد من النواتج، تضخم الحوافز النقدية المفرطة الأسعار، وتوسع الفجوة بين الطلب والعرض وتدفع التضخم – وهذه ديناميكية تقوض أهداف النمو ذاتها التي كان من المفترض أن يحققها الإنفاق الدفاعي.

في مسودة موازنة عام 2026، وللمرة الأولى منذ بدأت الحرب، من المتوقع أن يتوقف الإنفاق العسكري عن النمو، بل وقد ينخفض قليلاً. ويتلخص الهدف في إعادة التوازن الاقتصادي، وليس تحقيق السلام. لكن الانخفاض المتواضع في الإنفاق العسكري لن يصلح المشكلات البنيوية التي تعانيها روسيا. إن روسيا في مأزق: أية محاولة لخفض الإنفاق الدفاعي بسرعة من شأنها أن تؤدي إلى انهيار اقتصادي، لكن الحفاظ على مستويات الإنفاق العسكري الحالية من شأنه أن يديم الركود. لا تستطيع موسكو أن تتحمل الإنفاق العسكري إلى أجل غير مسمى ولا أن تنتقل بأمان إلى الاقتصاد المدني من دون تسريح قواتها والتوصل إلى تخفيف ما للعقوبات المفروضة عليها.

فرص عمل متاحة
هذا وتعاني روسيا أيضاً سوق عمل ضيقة. بحلول نهاية عام 2024، واجهت الشركات الروسية عجزاً في العمالة بلغ 2.2 مليون عامل، وأفادت 70 في المئة من الشركات الروسية بأنها تعاني نقصاً في الموظفين. والآن يتنافس الإنتاج الدفاعي مع البناء والنقل والزراعة على اليد العاملة النادرة. وتؤدي القيود المفروضة على الهجرة إلى تفاقم المشكلة. لا يستطيع المهاجرون العمل إلا في عدد قليل من القطاعات ذات الأجور المنخفضة، وهم يواجهون قوانين تمييزية. وأطفالهم، مثلاً، يعانون محدودية القدرة على الالتحاق بالمدارس.

من ناحية أخرى، تشتد الضغوط الديموغرافية: يشكل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة بالفعل 18 في المئة من سكان روسيا، وهي نسبة من المتوقع أن ترتفع إلى 24 في المئة بحلول منتصف القرن الـ21. تفاقم الحرب هذه الأزمة الديموغرافية. وفق تقديرات “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) وموقع “ميديازونا” الروسي المستقل خلال أغسطس (آب) الماضي، قتل ما لا يقل عن 219 ألف جندي روسي حتى الآن في أوكرانيا، غالبيتهم من الرجال البالغين سن العمل. وبات مئات الآلاف من الأشخاص خارج القوى العاملة في صورة دائمة بسبب جروح. ولا يشكل الجنود المتعاقدون العاملون على الخطوط الأمامية إلا نحو 0.5 في المئة من القوة العاملة. من الناحية النظرية، سيعيد الاقتصاد استيعاب هؤلاء العاملين عندما تنتهي الحرب، لكن المهارات القتالية لا تترجم دوماً إلى وظائف مدنية، وسيحتاج عدد من قدامى المحاربين إلى إعادة تدريب ورعاية طبية مستمرة.

تتسبب ضوابط التصدير الأميركية والأوروبية في قطع إمدادات روسيا من المكونات المتقدمة مثل أشباه الموصلات المتطورة، والمحامل الدقيقة [أدوات تستخدم في الآلات التي تتطلب أداء ثابتاً ودقيقاً]، والأدوات الآلية المتخصصة، مما أرغم اقتصادها على إحلال بدائل مكلفة. ولكي تتمكن روسيا من إنشاء بدائل محلية، هي تحتاج إلى بناء مرافق إنتاج جديدة من العدم. وتميل المنتجات إلى أن تكون أسوأ نوعاً وأعلى تكلفة. من الممكن أن تسد الواردات الموازية والإمدادات الصينية موقتاً الفجوات المهمة في الإلكترونيات والآلات، لكن جودة هذه المنتجات هي في الغالب أقل كثيراً. تستطيع روسيا أن تجمع الأسلحة، لكنها غير قادرة على إعادة بناء القاعدة الصناعية المتطورة اللازمة للحصول على قدرة تنافسية في الأجل البعيد. أصبحت روسيا تعتمد على الصين ليس فقط في ما يتصل بالمكونات بل أيضاً في ما يتصل بالأدوات الآلية والروبوتات الصناعية، مما يمنح بكين قدراً كبيراً من النفوذ على موسكو عندما يتعلق الأمر بالتسعير في مجال السلع الاستهلاكية والصناعية. ومن نواحٍ عديدة، أصبحت روسيا الآن تابعة للصين وتعمل في المقام الأول كبلد مورد للموارد وليس كبلد نظير تكنولوجياً.

تبدو صناعة الدفاع في روسيا الآن وكأنها مجموعة غير متجانسة من المشاريع والشركات والسياسات المتفرقة. ثمة شركات حكومية عملاقة مثل “روستيك”، وهي مجموعة دفاعية، وهناك ورش إقليمية، وشركات صغيرة، يبلغ حجمها حتى حجم المرائب تنتج مسيرات ومعدات. لقد أثبتت هذه التعبئة اللامركزية فاعليتها إلى حد مدهش في زمن الحرب، فالورش الصغيرة قادرة في الغالب على العمل بسرعة أكبر وبكلفة أقل من الجهات المتعاقدة الكبيرة التقليدية. لكن بمجرد انتهاء الحرب، لن تتمكن الحكومة الروسية من تمكين هذه الشركات من الاستمرار. سيكون من الأسهل بالنسبة إلى الكرملين بدلاً من ذلك أن يستعيد النظام السوفياتي النمط والمتضمن مصانع مركزية، ومشتريات متضخمة، وفساد مستشر. وقد يؤدي انهيار هذه الشركات الصغيرة المبتكرة إلى إبطاء وتيرة التطور والتنفيذ التكنولوجيين، إذ تتغلب عليها الاحتكارات الحكومية المترهلة.

وهناك أيضاً مشاحنات بين بيلوسوف الذي يدعم المتاجر الصغيرة (المعروفة أيضاً بالمجمع الصناعي العسكري الشعبي)، ومقربين من بوتين – مثل المدير التنفيذي لشركة “روستيك” سيرغي تشيميزوف، وأليكسي ديومين الحارس الشخصي السابق لبوتين – الذين يضغطون لمصلحة شركات الدفاع التقليدية. ولا يتقاتل الجانبان حول كيفية تطوير قاعدة الصناعة الدفاعية فحسب، بل أيضاً حول السيطرة على مصادر الدخل والكميات المربحة من اقتصاد يتزايد طابعه العسكري. منذ عام 2008، مثلاً، يساعد تشيميزوف في تعزيز سيطرة “روستيك” على شركات تصنيع دفاعية مملوكة للدولة وأخرى جرت خصخصتها وتعود إلى الحقبة السوفياتية من خلال الضغط على المساهمين والمديرين لحملهم على الانضمام إلى إمبراطوريته الصناعية. وقد يواجه رجال أعمال مبتكرون في مجال الدفاع داخل روسيا بترهيب مماثل، مما قد يؤدي إلى نزاعات وتأخيرات، وتجاوز للكلف المتوقعة.

استغلال الضعف
لا تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا المراهنة فحسب على انهيار الاقتصاد الروسي ببساطة. لكن القيود البنيوية المفروضة على النمو الاقتصادي في روسيا تشير إلى أن عودتها العسكرية المخطط لها ستكون بطيئة وغير متسقة ومكلفة – وهذا من شأنه أن يوفر لخصومها فرصة لعرقلة حشدها العسكري. فالعقوبات وضوابط التصدير، مثلاً، قد تلحق الضرر بموسكو. ترغم هذه الإجراءات روسيا بالفعل على الاستعاضة عن واردات بأخرى والاعتماد بصورة متزايدة على الصين. وإذا عمل صناع القرار السياسي داخل الولايات المتحدة وأوروبا لإحكام الضوابط على المكونات – مثل الأدوات البصرية وأشباه الموصلات والأدوات الآلية المتقدمة – واستمروا في فرض العقوبات على صادرات النفط الروسية ونظامها المالي، سيكون بوسعهم فرض مزيد من الضغوط على اقتصاد روسيا وقاعدتها الصناعية. كذلك قد يزيد ذلك من صعوبة قدرة موسكو على الحفاظ على تدفق السلع الاستهلاكية المستوردة (مثل الإلكترونيات والملابس والأدوات المنزلية) التي تدعم أنماط حياة الطبقة المتوسطة.

يتعين على صناع القرار السياسي داخل الولايات المتحدة وأوروبا أن يتوقعوا تكيف الكرملين. قد تزيد روسيا من عسكرة اقتصادها من خلال تحويل مزيد من الصناعات المدنية لتلبية حاجات الإنتاج العسكري، وبناء مصانع جديدة وجذب مزيد من الناس إلى صناعة الدفاع من خلال رفع للأجور وإعفاءات من التجنيد، وحملات توظيف موسعة. وتشكل تصرفات كهذه خطراً سياسياً لبوتين لأن من شأنها أن ترغم المواطنين الروس العاديين على تقديم تضحيات. قد تغلق مصانع المنتجات الاستهلاكية أبوابها، وقد تقنن السلع، وقد تخسر الشركات موظفيها لمصلحة القطاعات المرتبطة بالحرب. حتى الآن يحافظ بوتين على إذعان شعبه لطموحاته العسكرية الكبرى من خلال الحفاظ على طبيعية الحياة اليومية. أما التعبئة الكاملة فمن شأنها أن تجعل مزيداً من الناس يشعرون بآثار الحرب. لكن من منظور بوتين، قد يشكل المردود المحتمل – إخضاع أوكرانيا وتآكل حلف شمال الأطلسي – مبرراً للمقامرة.

عندما يتعلق الأمر بإحباط طموحات بوتين في مواجهة حلف شمال الأطلسي، يمثل التوقيت العامل الحاسم. بوسع روسيا أن تعوض خسائرها على مدى العامين أو الأعوام الثلاثة المقبلة، لكن استعادة قوتها العسكرية بالكامل ستستغرق وقتاً أطول كثيراً. المفارقة في اقتصاد الحرب الروسي هي أنه قوي وهش في الوقت نفسه. ويتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن تعملا على وجه السرعة: أن تستغلا مزاياهما في حين تظل روسيا مقيدة بدلاً من انتظار عودة الكرملين إلى الوقوف على قدميه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى